📁 آخر الأخبار

قصة دوائر الأموات للكاتبة ياسمين رحمي

 قصة دوائر الأموات للكاتبة ياسمين رحمي


مش عارف ليه بندور بره الأرض، في الفضاء الخارجي والكواكب التانية والمجرات وعن مخلوقات ذكية غيرنا، هو إحنا خلصنا الغازنا؟



قصة دوائر الأموات للكاتبة ياسمين رحمي




ده البني آدم لو دور بس جوه نفسه هيتوه، كل اللي عارفه هو قشور عنه، فما بالك بالدنيا حواليه، بالناس التانية والكوكب اللي عايش عليه. عندكم مثلًا حاجة كده اكتشفتها لما ركزت، لو كتبت خاطرة بأسلوب وتشبيهات معينة وغت مدة ونستها تمامًا وجيت بعد ييجي 10 سنين وقعدت وفتحت اللاب توب وقررت تكتب خاطرة، هييجي ف بالك أسلوب وتشبيهات وهتطلعها بشكل محدد وبعدين تفتح خاطرة لقتها ف مكان ما ، تلاقي تاريخها قديم، من سنين كتير فاتوا وجواها نفس الكلام اللي لسه كاتبه، نفس التشبيهات وترتيب الكلمات، وأنت اللي كنت متخيل إنك مبتكر وإن الحاجات اللي جت ف بالك وربطتها ف بعض مميزة جدًا، مش ممكن تيجي على بال حد ولا حتى إنت شخصيًا إلا مرة واحدة في العمر. وكمان لو اخترت أكلة وبعدها بفترة قعدت ف مكان مختلف واخترت بشكل يبدو عشوائي أكلة من ضمن الأكلات اللي ف قايمة الأكل بعد شوية هتفتكر إن دي نفسها.




 هي هي نفس الأكلة اللي اخترتها من حبه ف مكان تاني. وحتى الناس اللي بتقع ف حبهم، لو ملت لحد بعينه وعلاقتكم فشلت وفضلت كتير لوحدك، مش مآمن لحد، مش مآمن للحب وبعد كده تلاقي شخص، مختلف عن الباقيين، عن كل اللي خذلوك، حتى ف الشكل وطريقة الكلام، التفاصيل الكبيرة والصغيرة، بعد شوية ، بعد ما تتعمق ف شباكها أو تتعمقي ف شباكه، تكتشف إنه نفس البني آدم القديم، نفس الطباع والعيوب والمميزات، والغريبة بقى إنه فعلًا ممكن يبان مختلف تمامًا ف المظهر، يعني المفروض نظريًا ميكونش عندك فكرة إنه صورة طبق الأصل من الشخص القديم، المفروض إنك مخدوع، ده المفروض....





إيه بقى تفسير الظاهرة دي، ليه بنتشد لنفس الاختيارات ونفس القدر حتى لو الزمن دار بينا، اتغيرنا واتجددنا، انتهينا ف أماكن مختلفة، وسط صحبة مختلفة ونسينا؟ إزاي بنرجع تاني، إزاي بنحل المسائل والمعادلات بنفس الطريقة، بنفس الخطوات، إزاي مهما طلعنا وغوصنا في الفضا الواسع مبنلاقيش كائنات تانية، مبنلاقيش غير نفسنا؟!


أنا كنت عايش نمط حياة مختلف تمامًا زمان، مستوايا أنا واسرتي المادي والاجتماعي اتبدل وأنا اللي كنت فاكر الدنيا دايمة على حالها. المرحلة الأولى كانت لحد سن ال10 سنين، التانية لحد 16 والتالتة من وقتها ولحد دلوقتي....


المرحلة الأولى كانت مرحلة الموج الهادي، الشمس الساطعة والمناخ المثالي، المناخ اللي يشجع المراكب تنطلق وتختفي جوه الأفق من غير أي تكدير أو إحساس بالخطر. المرحلة التانية هي مرحلة الرياح اللي هبت فجأة من غير علم حد، من غير ما أكون عامل حسابي، وخلالها كنت بحاول أصمد، المركب بيجاهد عشان ميتقلبش ويغرق. أما المرحلة التالتة فهي الصورة المقلوبة من المرحلة الأولى، هي عكسها وكل حاجة ضدها....



خلينا نبدأ بالمرحلة الأخيرة.....


ديون، ركود، فلس، ومعاهم انتقالي لمدرسة حكومية، مستواها التعليمي أقل بكتير من المدرسة اللي اتربيت وكبرت فيها. حاولنا نمسك في الحيطان، نحتفظ بالمكان اللي كلنا كبرنا فيه وجواه اتحفرت الذكريات، لكن مبقاش ينفع، مينفعش نفضل عايشين ف كدبة، البيت ده ميعكسش حالتنا او بمعنى أصح قلة حيلتنا...



بعنا البيت وبداله جبنا بيت بسيط ف مكان بسيط، مساحته اقل بكتير، من غير عفش تقريبًا، يادوبك سراير قديمة قريبة أوي من الأرض، لو اتكينا عليها شوية أو خبطناها من غير قصد ممكن تتكسر...وشوية حاجات تانية ضرورية بس للعيشة.. لكن في الحقيقة أنا منفصلتش تمامًا عن الحياة القديمة، بقيت ف مكان كده في النص، بطل على العالمين، العالم القديم بالوشوش اللي فيه والأماكن اللي كنت بروحها، والعالم الجديد بالمقاييس الجديدة وظروف المعيشة المختلفة، وده لإن اصحابي اللي كانوا ومازالوا ف حكم اخواتي رفضوا يتخلوا عني أو يكملوا حياتهم من غيري. كل حاجة كنا بنعملها قبل كده فضلت مكملة وده بعد إصرارهم أن مفيش حاجة تتغير فيما يتعلق بينا. والنتيجة طبعًا إنهم كانوا بيشيلوا مصاريفي كلها لإني مبقتش أقدر اسد على المطاعم أو الكافيهات أو الأماكن اللي كنا بنروحها.. كنت متخيل إن الوضع هيفضل سنة ولا اتنين بالكتير وبعدين هيزهقوا لكني كنت غلطان، الموضوع فضل مكمل، خروجاتنا وإن اختلفت، فكانت نفس النمط ونفس المستوى. فاتت 10 سنين ولسه مكملين، وده غير إنه بسبب علاقتنا القوية ببعض وجدعنتهم فسبب إنهم زي ما كنت أنا واسرتي زمان الفلوس مش فارقة معاهم، عادة مش بيحسبوا اللي بيصرفوه لإنه بند مش محتاجين يقلقوا من ناحيته إلا لو حد فيهم قرر يفتح منتجع أو يشتري قرية سياحية أو يستثمر فلوسه ف مشروع ضخم مثلًا... وبعد 10 سنين وبعد ما كل سنة كنت بهرب من دعواتهم للسفر معاهم ف أماكن مختلفة من العالم عشان كنت شايف إن بجد ده كتير، إنه يصرفوا عليا ف سفر دي حاجة تانية، مسكوا فيا وحلفوا إني اسافر معاهم...



أنا الحمد لله اتخرجت من سنين وبقى عندي وظيفة كويسة وفي المجمل احوالي وأحوال أهلي بقت أحسن مما كنت بدرس، بس بقينا من الطبقة المطحونة اللي مينفعش تعطل ومعندهاش رفاهية الانهيار.. وفلوسي مع فلوس اخواتي الاتنين يدوبك بتغطي مصاريف البيت، يعني مش ممكن كان ييجي ف بال حد فينا يسافر بره مصر..



لكن نصيبي كان إني أطلع السنة دي مع صحابي، احنا الخمسة مرة واحدة، زي الأيام القديمة بالظبط، أيام لما مكنتش بحسب صرفت كام ومتبقيلي كام...


وبما إني مسافر معاهم فقرروا إن السفرية تبقى مختلفة عن كل سفرياتهم اللي قبل كده...


المرة دي مش هيروحوا على جزيرة ويعملوا رحلات بحرية ولا هيتسلقوا جبال ولا هينزلوا ببارشوت من طيارة، قرروا إننا نقيم ف فندق، فندق مختلف شوية...


وده لإنه زمان مكنش فندق، هي سفينة رسيت في المينا في كاليفورنيا، وده لإن أصحاب الرأي قرروا إنها متتحركش تاني، متعملش رحلات وتنهي أمجادها بعد ما فضلت ماشية في البحر لاكتر من 30 سنة واتحولت بكده لفندق ضخم. أشهر سفينة في التاريخ تقريبًا "كوين ماري"...



التياتنيك بالنسبة لها سفينة قزم، ولا أي حاجة. حجمها حقيقي مرعب وفكرة إنها كانت بتتجول في البحر وكمان شاركت في الحرب العالمية التانية حاجة فوق الخيال. يعني انا متخيلها أكتر كفندق الصراحة، مش سفينة زي باقي السفن اللي نعرفها...


كل واحد فينا كان مذاكر شوية معلومات عن الكوين ماري وكنا فرحانين اوي بنفسنا وعمالين نسمعها لبعض طول الطريق واحنا في الطيارة ولحد ما وصلنا، وإحنا الخمسة تفادينا مواضيع معينة عشان محدش فينا كان مهتم بيها، وهي الإشاعات الكتير اللي عن السفينة... برغم إنها فندق كامل متكامل بخدمات فخمة ورفاهية رهيبة لكن أغلب النُزلا مش بيباتوا فيها! أيوه، فندق من غير بيات...


وده مش لإن في قواعد بتلزم الناس إنها تتضايف وبعدين تمشي، ده عشان النُزلا نفسها بيختاروا يمشوا قبل ما الليل يخيم، غريبة، مش كده؟


إيه اللي يخلي أغلب الناس، العدد المهول من الزوار اللي ميعرفوش بعض ومتقابلوش تلقائيًا كده يقرروا يقضوا اليوم هناك وبعدين ياخدوا بعضهم ويباتوا ف حته تانية؟!


وأظن لو كنا دورنا أو سألنا عن السبب، فتصوري يعني اغلبهم مكنوش هيدوا إجابات واضحة، مش "عشان كذه"، "أصل كذه".. هو إحساس عام بإن المفروض يكملوا طريقهم ويقضوا الليلة ف فندق تاني، ولازم، لازم يمشوا قبل ما الشمس تغيب...


زي ما قلت إحنا كلنا مش مهتمين بالظواهر الغريبة أو الخرافات والاساطير، راسيين اوي ف النقطة دي. ممكن يكون عندنا شوية قناعات مختلفة عن بعض بس تقريبًا كده متفقين ف إننا عمليين ومش بنحب نخوض في المسائل اللي من النوع ده.


إحنا بقى ناوينا نقعد في الفندق 4 ليالي وبعدين نتنقل لمكان تاني....


كان الإداريين والعمال والموظفين، كلهم تقريبًا مستغربين وكل شوية حد يسألنا إذا كنا فعلًا هنبات في السفينة، كنا بنأكد ده بابتسامة واسعة على وشوشنا، ده غير بقى بصاتهم لينا ولبعض. واضح كده إنهم أخدوا على إن السفينة أو الفندق الطافي ده اتحول لمعرض فني كبير بحيث إن الزوار ييجوا يتفرجوا على القاعات والطرقات التاريخية الفخمة ويقعدوا ياكلوا ف قاعة من قاعات الأكل وبعدين يمشوا ويكملوا جوالاتهم السياحية ف مواقع تانية. طب خليتوا فيها بيات ليه يا جدعان، متقلبوها معرض فعلًا وتريحوا دماغكم؟ بدل حالة الازبهلال دي عشان قررنا نتعامل فعلًا مع السفينة على أساس إنها فندق.



كنا تعبانين جدًا من السفر عشان كده كلنا فصلنا بدري مع غياب الشمس، الساعة لسه مكنتش وصلت 8 مثلًا وكلنا حسينا إننا لازم نريح. قضينا كام ساعة بس قبلها مع بعض، أكلنا وسألنا على قاعات حمام السباحة وقعدنا شوية ف قاعة منهم، ف حمام سباحة ضخم عشان نسترخي. مكنش فيه غيرنا ف حمام السباحة وقبلها ف قاعة الأكل كان في عدد محدود بس. غريب أوي أمر الزوار فعلًا، ليه العدد مكنش كبير، بعكس أول ما وصلنا، ليه كل شوية الدنيا كانت بتفضى أكتر؟


المهم إن كل واحد أتوجه لأوضته. أنا و"مصطفى" و"ريان" كنا ف دور واحد، أوضنا بعيدة عن بعض أما "عباد" و بِشر" فكل واحد نزل ف دور مختلف. كل واحد بقى حسب ذوقه، لإن كل دور كان في قاعات مختلفة، فاللي حابب يخرج من اوضته ويتجول يروح للقاعات اللي ف دوره واللي تناسب ذوقه ودماغه...


نمت علطول، مستنتش اغير هدومي، أول ما حطيت راسي على المخده محستش بالدنيا.


وجه الصبح... أول ليلة زي ما تكون عدت ف لحظات بس...


بس لما بدأت أفوق وأركز لقيت الدنيا هادية ومضلمة اوي، ليه، ليه مفيش نور؟


ده لإن النور مزحفش لسه، الصبح مطلعش، كنا لسه بليل...


بعد ساعتين بالظبط، ساعتين بس من ساعة ما نمت. الغريبة إني كنت حاسس إني نمت ليلة كاملة، كنت فايق، فايق جدًا... بعد شوية استوعبت جزء من السبب، الدوشة اللي كانت بعيدة شوية بس كافية تصحيني.. لكن برضه ليه كنت فايق كده، ليه مكنتش لسه نعسان. معقول الدوشة طيرت النوم من عيني وأنا مش مدرك؟


وإزاي يسمحوا بدوشة زي دي بليل؟؟ ده مكنش دي جي أو موسيقى، أنا مش في الدور اللي فيه قاعات من النوع ده، "بشر" هو اللي في دور قاعة الحفلات. أنا كنت في الدور التاني، هو والدور الأول مفيهمش غير قاعات اكل وتذكارات تاريخية للسفينة وزوارها القدام.


حاولت أكلم الريسيبشن لكن معرفتش أوصل لهم، كنت بسمع أصوات غريبة كإن الرقم مش عايز يجمع. كل مدى بحس إن الدوشة بتبقى أوضح، الأصوات بقت مزعجة. كانت زي حركة آلات أو مكن...



مهو أنا كده كده مكنتش هعرف أنام. مفيش غير إني كنت أروح بنفسي للريسيبشن أو أقرب مكان في موظفين واشتكيلهم....


خرجت من الأوضة فعلًا. وزي ما ميزت، ده كان صوت مكن وعشان أبقى دقيق صوت محركات...


ليه؟! ليه المحركات شغالة؟! دي مش سفينة ماشية أو هتمشي ف حته، دي بقت عقار ثابت، فندق ومزار للسكان المحليين والسياح، ليه المحركات شغالة وبالقوة دي؟



سبنا بعض قبل الساعة "8".. "مصطفى" حاله كان زي حالنا، منعرفش مين تعبان أكتر من التاني، كلنا بنتطوح ومعرضين نقع من طولنا ف أي وقت، وكان لازم نريح...



وبرغم كده. وبرغم إن "مصطفى" كان مستعد ينام وإن شا الله ميصحاش غير بعد 12 ساعة، بعد ما اترمى على سريره كان بيعصر ف عينه عشان ينام لكن عينه كانت كل شوية تفتح،كإنه مش قادر يتحكم فيها. المعجزة إنه قلق! قعد يتقلب يمين وشمال من غير فايده. هو في تفسير منطقي وهو التكسير ف جسمه الزيادة عن اللزوم. ده بيحصل له من وقت للتاني. "مصطفى" من الناس اللي مدمنين شغل وفرهدة. بيضغط على نفسه وبيعمل زيادة بكتير عن اللي المفروض يعمله. وده بيعمل له حالة كده مش بتحصل مع كل الناس، وهو إنه من كتر الإرهاق الجسدي جسمه بيقاوم وبيرفض الخمول والموضوع بيتطور لألم حقيقي ف مناطق معينة من جسمه زي رجليه، يعني زي كده اللي اتعرض لعلقة سخنة فجسمه بيتوجع ومش بيقدر يدخل ف مرحلة السلام والنوم..



وهو ده اللي للأسف حصل له ليليتها، وللأسف ليه، ما في حاجة حلوة أوي ممكن تتعمل، حاجة مثالية عشان تخليه يسترخي والألم ف جسمه يقل، ده بدل الحمام في حمامين سباحة ضخمين فخمين والقاعتين كمان أكيد خاليين من الناس، مفيش أحسن من كده، يروح تاني، هو أصلًا المرة الأولى ملحقش يقعد....



مفكرش كتير، غير هدومه ولبس الشورت واتوجه لحمام السباحة اللي كان ف نفس دورنا....


في الحقيقة هو كان مبسوط جدًا إن محدش فينا صاحي، ومش مضطر يتعامل مع أي بني آدم، وقته ليه لوحده، الراحة الحقيقية هي إنه يسترخي من غير أي وجود معاه، عشان حياته ف العادي زحمة بزيادة....


وصل، خطوتين وكان هيدخل القاعة لكن في حاجة وقفته....


طرطشة!


في حد ف حمام السباحة، يادي الحظ! هو كان متأكد إنه هيبقى لوحده، لكن واضح إن في ناس بتفكر زيه وكمان بتنط وتعمل شقلبظات، يا ترى بقى شلة مراهقين ولا أطفال مع عائلاتهم؟ يالا أهو نصيبه، وصل لحد هناك ومكنش ينفع يتراجع.. أتقدم ودخل....


الدنيا كانت فاضية تمامًا! مفيش صريخ إبن يومين... ولا بني آدم ف القاعة.. مش ده بس اللي شد انتباهه، قرب لحمام السباحة ولقى إن في جزء معين الميه فيه مختلفة عن الباقي... في بقاليل كده وميه بتجري مش راكدة كإن في حد كان لسه ف الميه حالًا وخرج....



"ريان" كان ف أوضته من قبل الساعة 8. أدرك فجأة إن الوقت كان بدري أوي، لو كان سلم ونام ف وقتها بعمق كان ممكن يصحى على أربعة خمسة الفجر، وبعدين كان هيعمل إيه بقى ساعتها؟؟ هيقعد يكلم نفسه ولا يتخانق مع دبان وشه ولا إيه.. ولو حس بجوع يطلب خدمة الغرف وياكل لوحده وييجي الصبح ميقدرش يفطر معانا؟ أزمة دي...المشكلة إنه كان تعبان جدًا، بس قال يقاوم شوية، لحد 10 مثلًا ولو جدع يكمل ل11، عشان يصحى زي الناس الطبيعية ويفطر زي باقي الخلق ويومه ميتقلبش...


فعلًا فتح التلاجة الصغيرة، أخد شوية تسالي وقعد يتفرج عالتليفزيون. في الأول المقاومة كانت صعبة بس مع الوقت نجح يفوق شوية. جت 9 ... مفضلش كتير، مطلوب منه بس يصمد ساعة عالأقل وبعدين يستسلم... لكن الحقيقة واللي مكنش مخططله إنه فاق زيادة عن اللزوم، مش بس فاق، ده اتخض بطريقة خلت الأدرينالين بيجري فيه زي الدم!


وده لإن بابه خبط بعنف فجأة..


كذه خبطة وره بعض.. قدر يترجم طريقة التخبيط. الشخص ده في الأول فرد كفوفه وخبط بيهم وبعدين كور إيديه الاتنين وكمل!


اتنتر من مكانه، التسالي وقعت من إيده وبهدلت السرير والأرض. التخبيط وقف ومع ذلك "ريان" مرجعش قعد عالسرير... مشي ببطء ناحية الباب. سأل:


-مين؟


مسمعش رد ولا كان سامع حركة..



أخيرًا فتح الباب، مكنش في حد وراه، بس... هناك على بعد مسافة منه مكنش في شخص واحد، دول تجمع! ناس متكتلة في مساحة مش كبيرة، عدد محترم. كل واحد فيهم أحواله غريبة بطريقة شكل.. اللي بيكح ودافن راسه ف البالطو اللي لابسه، واللي ساند على الحيطة كإنه مش عارف يصلب طوله وممكن يقع ف أي وقت واللي ماسكة بنت صغيرة بايديها الاتنين والاتنين بيعيطوا بحرقة. والمشترك ما بينهم كلهم إن وشوشهم الوانها مش طبيعية، ما بين الأصفر والازرق، كإن الدم انسحب منهم، من الآخر كلهم عيانين...


المشترك التاني إنهم كلهم لابسين أزياء غريبة، موضتها بطلت وإن كانوا اختلفوا ف اللبس، يعني ما بينهم وبين بعضهم الأزياء مختلفة، كل حبه بموضة وشكل وقصة شعر....


سمع صوت باب إزاز بيتفتح والناس انتبهت، رفعوا راسهم على مصدر الصوت وبدأوا يدخلوا شوية ورا شوية..........


"عباد" سابنا وراح لطريقه لما اتفقنا كلنا نريح ونتقابل الصبح، طلع للدور بتاعه، وصل لقدام أوضته لكن مدخلش....

وده لإنه لمح حد تاني في الطرقة، نزيلة... كان مبسوط لإنه مش هو بس وإحنا اللي قررنا نبقى نُزلا طبيعين ونبات في الفندق ده، في غيرنا وف نفس دوره كمان...



كانت ست جميلة، شعرها دهبي، مش أصفر، لون الدهب بالظبط. كانت لابسة فستان أبيض شيك، شيك زيادة عن اللزوم، زي ما تكون راحت أو هتروح مناسبة معينة.


"عباد" فضل رافع راسه وباصص ناحيتها. ابتسم عشان لما تبصله تفهم إنه بيرحب يها.. لكن الغريبة، إنها فضلت مدياله ضهرها وقت كبير، كانت ثابتة مكانها، لا بتتمشي ولا بتتحرك، ولا راسها حتى بتتحرك...


جه ف بال "عباد" إنها ممكن فعلًا تكون جايه من قاعة المناسبات والدي جي أو من احتفال ما وتكون مثلًا مش فايقه، يعني هم من عادتهم يشربوا مشروبات مُسكرة عادي.. فممكن تكون زودتها شوية في الشرب وده يفسر وقفتها دي، تلاقيها تايهة، مش عارفة تميز الاتجاهات، مش فاكرة أوضتها... قال لها بالانجليزي:


-يا آنسة، محتاجة مساعدة؟ فاكرة أوضتك؟


حركت راسها للجنب وهي لسه مدياه ضهرها، كإنها انتبهت لوجوده فجأة. فضلت ساكتة كام ثانية وبعدين قالت بصوت واطي:

-تايهة!


-طيب نروح على أقرب ريسيبشن ونسأل هناك، أكيد هيقولولنا على أوضتك أو حد من الموظفين هييجي معاكي ويوصلك هناك.

-تايهة...


تكرارها للكلمة وطريقتها في الكلام مش بس بتاعة حد سكران، كإنها حزينة. نبرتها كانت مكسورة جدًا...

وادي النوم راح ف ستين داهية! ده اللي جه ف باله وهو بيقرب عليها عشان يوصلها للريسيبشن...


وصل ليها. بقى جنبها. رفعت راسها وبصتله....

منظر كان غريب جدًا، خيوط كتير واضحة على وشها، خيوط جافة، وسواد رهيب تحت عنيها الاتنين. دموع وكحل سايح!


هي فضلت تعيط قد إيه عشان كم العلامات دي تتجمع على خدودها وتوصل لدقنها ورقبتها؟ ميفتكرش إنه شاف الشكل ده على حد قبل كده...


عينه طرفت، اتخض وقلق عليها. كان لازم يوصلوا للموظفين بسرعة وكان ناوي مش بس يطلب إن حد يوصلها، لأ ده يقول لهم إن حاسس إن الست دي حالتها مش كويسة أبدًا ولازملها مساعدة، دكتور أو اخصائي...


بدأ يمشي وهي تمشي وراه ببطء... خطوتين ووقف لما قلتله:


-تعرف إحنا فين؟


-في الدور الرابع.

-أيوه، فين بالظبط؟


-في سفينة الكوين ماري.

-وإيه اللي جابني هنا؟


-شوية وهتفوقي وتفتكري، متقلقيش.


-طب تعرف أنا مين؟


"بشر" كان ناوي ميطولش بعد ما اتفرقنا وراح أوضته في الدور الخامس. كان هيعمل شوية طقوس كده تخليه يسترخي وبعدين ينام. زي إنه يكلم خطيبته الأول مكالمة فيديو يطمنها عليه وبعدين ينقع نفسه في البانيو ويحط بقى عالميه الحبشتكانات اللي الفندق بيوفرها، واللي بتساعد الجسم إنه يرتاح...



عمل الخطوة الأولى، كلم خطيبته وحكالها باختصار عن رحلته وبعدين قام وفرجها عالأوضة كلها وهي بقى مكتفتش، اتذهلت من الأوضة وديكورها وأصرت إنه يخرج ف طرقة الدور ويفرجها عليها...


-إيه يا "أماني" حبك يعني؟ بقولك تعبان خليها بكره.


-لا معلش، أصلي مكنتش أتوقع كده. أنت متخيل إن السفينة دي موجودة من التلاتينات في القرن اللي فات؟ أنت ف متحف مفتوح. يالا بقى بسرعة كده خدني معاك لفة ف الدور...

-أمري لله.



مكنش متحمس إطلاقًا. هي السفينة ف رأيه كانت جميلة ومبهرة وكل حاجة بس أكتر حاجة كان نفسه فيها وقتها يستريح كده وياخده حمامه وينام.


خرج ومعاه الموبايل وفضل يمشي ويلف بيه. اللون الموحد الطاغي على الحيطان والأرض هو البني المحمر الفاتح، لون راقي ومميز جدًا ويدي شعور بالهدوء. الواحد أعصابه بتبقى هادية ف الأجواء دي.



-خلاص يا ستي ارتحتي؟ سيبيني أرتاح بقى.


دخل أوضته. كان لسه مشغل المكالمة. نزل بجسمه كله عالسرير مرة واحدة. كان بينام وهو لسه بيتكلم معاها أو بمعنى أصح هي اللي كانت بتتكلم وهو عامل إنه بيسمع ولسه فايق، وفجأة ف وسط ما بتتكلم عينه اتحركت ف اتجاه معين، حيطة جنب السرير...


-أنت روحت فين؟


مردش علطول عشان كان مركز في اللي بيسمعه، وشوشوة، أصوات جيه من بعيد، من الأوضة اللي جنبه. في ناس نازلين في الأوضة التانية..


قال لها إنه سمع همسات واستغرب عشان مكنش متخيل إن في حد في الأوضة اللي جنبه وإنه مشافش حد خالص في الدور اللي كان فيه ولا ف أي دور تاني، بمعنى ملمحش أي حد داخل أوضة عشان يبات، كان فاكر نفسه هو بس وأصحابه اللي بايتين في الفندق.


ردت وقالتله إن ده كلام ساذج، مش ممكن يكونوا هم بس اللي بايتين ف فندق ضخم زي ده، وهو أكد كلامها، لما سمع نفسه بيقول كده بصوت عالي حس بمدى غباءه، مش منطقي طبعًا يكونوا لوحدهم.


عينيه زاغت مرة تانية وده لإنه المرة دي سمع أنين، كإن حد بيتألم...


مبقاش قادر يركز مع خطيبته. قفل معاها وأكيد طبعًا بقى فايق. استغرب إزاي الحيطان رقيقة بالشكل ده، إزاي فندق عريق او سفينة حتى يكون تصميمها معيوب كده؟ الناس تسمع بعض عادي؟ كإننا ف أنور عمارة من عماير اللبيني مثلاً؟

والست دي، صاحبة الأنين، مالها؟ يارب يجيب العواقب سليمة.


-إمشوا انتوا دلوقتي ، أنا وبابا عايزين نتكلم ف موضوع بتاع كبار...

صوت الست كان واضح جدًا، أوضح من المرات اللي قبل كده. طريقتها في الكلام زائد المضمون بياكد إنها بتوجه كلامها لأطفال، ولادها، بس نبرتها مكنتش مقنعة. هي و"بابا" مكنوش عايزين يتكلموا ف موضوع، كان في مشكلة ما ما بينهم، وهي مكنتش عايزه الأولاد يسمعوهم ويخافوا. اه، هي ليلة مش معدية!


مفيش كام ثانية، العيال أكيد ملحقوش يطلعوا من الأوضة والزعيق اشتغل. الاب كان عامل زي التور الغضبان، "بشر" نفسه اتهز، خاف من الراجل وثورته.


-اخرجوا من هنا، حالًا!

دي الأم كانت بتزعق ف ولادها، صوتها مهزوز، مرعوبة....

الباب اتفتح و"بشر" سمع أصوات خطوات سريعة، طفلين بيجروا في الممر.


بتلقائية "بشر" اتنفض من سريره وجري ناحية الباب وفتحه. كان هيدخل الولاد عنده، يخليهم معاه لحد ما الأب يهدى ويحل مشكلته مع الأم، بس ملحقهمش.... لمحهم ف آخر الطرقة، ولد وبنت، أعمارهم آخرها 9 سنين مثلًا. موقفوش جري بعد آخر الطرقة جريوا يمين، واختفوا....


-كل حاجة هتتحل، مش مشكلة، هنبدأ من أول وجديد، كتير بيفلسوا، وبيرجعوا يقوموا تاني، إحنا مش هنضيع ولا الولاد.

-بطلي كدب!


حركة عنيفة. جري ف اتجاهات مختلفة من الأوضة. يعمل إيه؟ يتصرف إزاي؟ واضح إن الوضع بقى خطر، الراجل ده عايز يضرب مراته أو يأذيها. لازم يبلغ إدارة الفندق، لازم...


طلع على السرير واتحرك بسرعة لحد الناحية التانية، عند التليفون. رفع السماعة وحط صوباعه على الأرقام لكن ملحقش!

قبل ما يطلب سمع صوت طلق نار، 3 طلقات!


قتلها، قتلها!



الراجل اتجنن، زمامه فلت، مبقاش ف وعيه أكيد.

سكون... مفيش أي حركة أو صوت بعدها. إيه؟ الراجل اتحول لتمثال؟ ولا كان ف حالة صدمة وبيتفرج على مراته اللي أكيد غرقانة ف دمها؟


دماغه وقفت تفكير. قرب ناحية الحيطة اللي كان بيسمع من خلالها الأصوات وحط ودنه عليها...

خبط رهيب! دبدبة على الحيطة، مش إيدين، مش شخص واحد، أيادي كتير، ناس كتير. اتنتر من مكانه، رجع بضهره وهو بيصرخ، كان في ألم رهيب ف ودنه...


أنفاسه عليت وبقت سريعة، عينه متثبتة على الحيطة وعقله مش عارف يترجم....


كل ما أقرب كل ما الصوت يبقى أوضح. كنت عارف أميز اتجاه مصدر المحركات. فضلت ماشي لحد ما وصلت لآخر الممر. كان قدامي سلم بيودي للدور اللي تحت. فضلت واقف لحظات وبعدين اتحركت، نزلت سلمة سلمة وأنا مركز. مفيش شك إن أوضة المحركات كانت تحت. كان عندي فضول أفهم ليه المحركات شغالة والسفينة واقفة، مش واقفة شوية وبعدين هتمشي، دي واقفة من سنين كتير، يا ترى مؤثرات، محاكاة مثلًا لعصر قديم، أيام ما كانت السفينة لسه سفينة وبتعمل رحلات، في عرض ما إحنا معندناش علم بيه؟



مبقاش صوت محركات بس، بدأت اسمع أصوات ناس، عمال، كانوا بيكلموا بعض، بيدوا توجيهات خاصة بالمحركات والشغل ومهمة كل واحد فيهم، إسلوبهم كده زي البحارة اللي بنشوفهم في الأفلام، أصواتهم عالية بزيادة، بيضحكوا ويزعقوا ويشتموا، كله ف نفس الوقت..



لما ركزت لقيت إن في حاجة غريبة، أنا قربت، قربت جدًا، تقريبًا بقيت ف نفس الأماكن اللي بسمع منها أصواتهم، لكن مكنتش لسه شايفهم!


هم كانوا حواليا، ولازقين فيا، بيتحركوا ويمشوا لكن مش شايفنني زي ما انا مش شايفهم، الفرق إني سامعهم وحاسس بوجودهم، أما المحركات فمرئية ومسموعة مننا كلنا!


مش ده بس اللي غريب، لهجتهم، هي انجليزي بس مش الإنجليزي بتاع الأمريكان ولا الانجليز بتوع العصر الحالي. مبدأيًا مش ممكن يكونوا أمريكان، ولهجتهم أتقل من الانجليز.....


في مجسم كل شوية بقى يوضح اكتر، كان مختفي تمامًا في الأول وبعدين بقى في خطوط بتحدده، لكن جواه فاضي، خطوط لوش وجسم والفراغ اتملى حبه حبه، بني آدم!


واحد من العمال، مراهق، سنه ميتعداش 18 سنة بالكتير. جري لحد ما وقف قدام باب معين اللي كان مكتوب عليه "13". الباب كان بيتقفل ويتفتح بسرعة جدًا . أدركت إنهم كانوا بيعملوا زي تدريب على الحرايق، بس مكنوش واخدين الموضوع بجدية وده واضح من ضحكهم العالي وطريقتهم في الكلام والباب ده وطريقته في الفتح، والقفل التلقائي ليها علاقة بالتدريبات.


الشاب الصغير رجع كام خطوة لورا وهو بيتكلم، قال إنه يقدر يجري بسرعة ويعصر نفسه ف الفتحة الصغيرة ويعدي الناحية التانية قبل ما الباب يتقفل..


في كام صوت بس، كام صوت حذروه من إنه يعمل كده، وواحد زعق فيه عشان يرجع وقال إن الأمور دي لازم تتاخد بجدية وقبل ما يعمل كده لازم يكون متدرب كويس ومستعد، لكن الأغلبية أصواتهم عليت، تحمسوا وبقوا يشجعوه.


أنا بقى المرة دي مسكتش، موقفتش متكتف، روحت لحد عنده وقعدت أزعق فيه، لكن مسمعنيش ولا حس بيا، مهما زعقت وصوتي علي، كنت جزء من الفراغ حواليه...


"جون" جري وحاول يعصر نفسه في المسافة الصغيرة لكنه مخرجش، معداش للناحية التانية، جون اتقسم نصين!

مبقاش في تشجيع ولا ضحك ولا زعيق، كل الأصوات سكتت..


قعدت على ركبي براقب الاشلاء والدم اللي مطرطش في الجنبين. بعد شوية الدم اختفى ومعاه الجثة المتقطعة والأرض رجعت نضيفة والمحركات وقفت....


قمت العافية، لفيت، مشيت كام خطوة لحد ما خرجت للممر ووصلت اول سلمة عشان اطلع...وقتها سمعت المحركات، بدأت تشتغل من تاني. مديت ف خطوتي، طلعت وأنا كل مدى بجري اكتر لحد ما وصلت أوضتي وقفلت على نفسي الباب.


هي كانت مهمة شبه مستحيلة بس كان لازم أغصب نفسي على النوم، لازم أنام، لازم....


لما "مصطفى" شاف الميه اللي بتتحرك ف حمام السباحة اتأكد إنه مش بس لوحده في القاعة، ده في حد كان لسه هنا حالًا، مش قادر يفسر إزاي فوته اصلًا، إزاي مش شايفه ف أي اتجاه حواليه...


مكنش هيفضل واقف مكانه للأبد، هو جه حمام السباحة عشان يسترخي، يغمض عينه ويحاول يخلي جسمه يفك من حمول التوتر والإرهاق اللي عليه.


نزل الميه في الجزء اللي الأرض فيه سطحية بجيث يقدر يقعد ويغمض عينه من غير قلق، إن شا الله ينام ويصحى وقت ما يصحى....

هو ده اللي حصل فعلًا. حس براحة رهيبة كإنه كان محتاج لده وغمض عينه، وبعكس لما كان ف أوضته كان قادر يسترخي بجد وعقله كان مستعد ياخد راحة ويسلم للنوم.


لكن الوضع اتغير بسرعة وفتح عينه عالآخر ف ذعر لما سمع حد بيعدي وراه بسرعة، كانت طفلة صغيرة بتضحك، وصدى ضحكتها سمع ف القاعة كلها. اتلفت وراه وحواليه، ملقهاش! مفيش أثر ليها... هنا كان لازم يواجه نفسه بالواقع، قاعة حمام السباحة مسكونة...

لكن للأسف أول ما أدرك وقبل ما يفكر هيعمل إيه كانت راسه تحت الميه! قوة رهيبة نزلتها ف الميه، وبرغم إن الأرض مكنتش عميقة لكنه كان بيغرق ومش قادر يرفع نفسه برغم المقاومة الرهيبة بتاعته...

كان حاسس بإيد لكنها مكنتش مرئية وبعد لحظات لمح صورة مشوشة من تحت الميه.. بنت صغيرة قعده على ركبها ، ماده إيديها الاتنين ناحيته، ملامحها ممسوحة وشعرها سايح ومخبي حته كبيرة من وشها.


للقطة واحدة قدر يطلع ويتنفس، قال بصوت مهزوز "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وبعدين الإيد نزلت راسه تاني، لكن بعدها محسش بضغط، راسه مبقتش ممسوكة. خرج.. أنفاسه كانت سريعة وجسمه كله بيترعش. واحدة واحدة طلع من حمام السباحة.،حط فوطة من الفوط المفرودة على الكراسي عليه ومشي لحد ما قدر يخرج من القاعة، شوية كان بيقع وشوية بيقوم وكان بيتطوح ف كل الاتجاهات. مع آخر خطوة ف القاعة وقبل ما يخرج مباشرة سمع صدى صوت....

-لسه بدري، خليك معايا، عايزه العب...


كمل لحد أوضته ودخل. أول ما شاف السرير أُغمى عليه ومحسش بالدنيا

بعد ما التجمع اتحرك ف اتجاه واحد "ريان" مشي لحد مصدر الصوت، فعلًا كان باب إزاز من اللي بيتجر عشان يتفتح ويتقفل. الناس كلها دخلت. هي الأوضة كانت واسعة بس مش لدرجة إنها تشيل كم العدد ده، اللي منهم اترموا على السراير البيضا الصغيرة واللي قعد على الأرض واتكور وحط إيديه وسط ركبه واللي فضلوا واقفين في الأركان وماسكين أطفال أو ناس تانية... كلهم، كلهم كانوا عيانين ودي كانت أوضة عزل!



"ريان" كان بيراقبهم من بره، الباب الإزاز مخليه شايف كل التفاصيل بوضوح.. مش بس عيانين، حالتهم كانت صعبة وكان حاسس إن في عدد منهم بيطلع في الروح.

-بتعمل إيه عندك؟


"ريان" اتفاجأ بشخص جنبه، واحد لابس بالطو أبيض ومعلق ف رقبته سماعة ولابس نضارة شكلها عتيق زي تسريحة شعره.

مقدرش يرد. كان مرعوب لدرجة إن لسانه اتلجم جوه بوقه.



-لو أنت هنا يبقى أكيد عيان، ده قسم العزل بتاع السفينة.


هز راسه جامد يمين وشمال بيحاول ينفي. قال:


-أنا مش عيان، أنا جيت هنا بس، وشفت الناس دي بتدخل، مش عيان.


-أولى خطوات العلاج هي الاعتراف بوجود عطل أو ألم.


-بس أنا مش عيان.


الدكتور مسك دراعه بقوة والباب الإزاز اتجر تلقائيًا قدامهم. "ريان" بقى يتجر بالعافية لجوه الأوضة، كان بيحاول يرجع، يقاوم، لكن مفيش فايدة، طاقته كانت ضعيفة جدًا بالنسبة للدكتور. صرخ:


-من فضلك، أنا كده هتعدي منهم، أنا مفياش حاجة، مش عيان.


-هنعمل كل الكشوفات والتحاليل اللازمة عشان نتأكد، إحنا هنا عشان نساعدك.


بعد ما مشي حبه كتير أخيرًا الدكتور لقى سرير فاضي. ابتسم وبص ل "ريان" وقال:

-كإن السرير ده مستنيك، مخصص ليك أنت.


زقه عالسرير. "ريان" مدد، بص للسقف عشان يهرب من المناظر الرهيبة اللي كانت حواليه، ناس بتموت وناس منهارة في العياط عشان حد مات أو عشان حالتهم، دم عالسراير وف الأرض وعالحيطان ومواد تانية ألوانها غريبة.


وش الدكتور غطى السقف. "ريان" مبقاش شايف غيره. شال السماعة من رقبته وقال وهو بيحطها على صدره:

-بتشتكي من إيه؟


"ريان" حط إيده على أورته. الدموع ملت عنيه ورد بصوت واطي مهزوز:

-مش أنا اللي عيان، هم اللي عيانين، مكنش المفروض أجي هنا، مكنش المفروض أروح هناك...

الدكتور مبقاش موجود ولا الدم ولا العيانين. الأوضة فضيت تمامًا.


"ريان" حرك جسمه. قعد على السرير بعد ما كان ممدد. فضل متنح في الفضا قدامه.


قام بعد شوية وقت. راح لحد الباب الإزاز جره. اتفتح عالآخر، قبل ما يطلع شاف أوراق كتير متعلقة عالحيطة جنب الباب، فيها أسماء، قائمة بالناس اللي عيوا وماتوا على سفينة الكوين ماري، واللي آخر مشاهد شافوها هنا ف "أوضة العزل".


مفكرش يروح لحد مننا أو يكلمنا قال كفاية اللي حصل فيه، مكنش عايز يخضنا وقال ف باله اإن زماننا نايمين ف سلام ومصدقنا نرتاح...


راح لأوضته، مدد على سريره، جسمه اتكور وقفل عينه، مهو لو فضل صاحي وخايف مكنتش حاجة هتتغير، مفيش حاجة من الماضي هتتغير...



السؤال الأخير اللي الست الغامضة سألته ل"عباد" خلاه بجد يقلق، مرحلة جديدة عن اللي فات. معقول السكر يخلي حد ينسى إسمه ويسأل:


-تعرف أنا مين؟


بدأ يحس إنها مكنتش حفلة عادية، مش حفلة على الإطلاق. الست اللي كانت لابسه فستان أبيض مراحتش مكان تحتفل وشربت خمرة، دي وراها قصة، ويمكن متكونش سكرانة من الأساس!


-أنت شكلك غريب.


-غريب إزاي؟


-لبسك وشعرك وطريقة كلامك.

-أنا مش انجليزي.


-الأزياء عندكوا مختلفة تمامًا.

-إنتي فاكرة الأزياء؟



بصتله بصة مرعبة كإنها اتخضت من سؤاله، افتكرت، افتكرت إنها تايهة ومش فاكرة حاجة!

بعدت عنه. قربت للحيطة. مدت دراعها وبدأت تخبط فيها وهي بتزعق:


-أنا مين؟ مين؟ ايه اللي جابني هنا؟ ليه الألم اللي حاسه بيه ده؟ إيه المصدر؟

حطت إيدها على صدرها وعيطت بصوت عالي مبالغ فيه، صوت ميطلعش من بني آدم.


-قلبي بيوجعني، بيوجعني.


بص للمكان اللي كانت حاطة إيدها عليه، الأبيض الناصع بتاع فستانها اتلطخ بالأحمر، بقعة حمرة عمالة تنتشر في منطقة الصدر، قلبها!

كإن في جرح حصل ف وقتها، بسبب آلة حادة أو طلقة...


راسها دلدلت، بصت على البقعة الحمرة وبعدين رفعت راسها ليه وقالت:

-كل مرة بفضل أعيط لحد ما عيني تورم وكحلي يسيح، مرة ورا مرة ورا مرة...


سكتت فجأة وتنحت ف اتجاه معين، كإنها افتكرت حاجة...


-سابني، على السفينة دي سابني عشان يتجوز البنت اللي أهله اختاروهاله، جواز مرتب، مناسب للعيلتين، أرستقراطيين مش هيسمحوا لواحدة زيي من مستوى أقل تخترقهم وتدخل وسطهم. بسحب مسدس من الجاكيت بتاعه وبمشي في الطرقة لحد ما ببقى لوحدي، برفعه وأوجهه لقلبي وبضرب الزناد...



يا حلاوة! دي شبح مش إنسانة، شبح لواحدة انتحرت زمان جدًا، وده يفسر توهتها والحالة البائسة اللي هي فيها. لأ و"عباد" اتطوع ومشي معاها ورفض يسيبها لحد ما يتطمن عليها، لأ شهم وجدع!


رجعت تاني سرحت وبعديها بصتله وقالت:


--تعرف إحنا فين؟ وإيه اللي جابني هنا؟ طب تعرف أنا مين؟

كده تمام أوي. "عباد" لف وجري بأقصى سرعة. كان سامعها حتى بعد ما بعد بتقول:


-أنت! عندك فكرة إيه اللي جابني هنا؟


مبصش وراه لحد ما وصل أوضته. رجله مطاوعتوش يروح لحد السرير، قعد على الأرض، ضهره لازق في الباب. بعد شوية حس بتعب رهيب، مدد مكانه ونام....


بعد وصلة التخبيط الرهيبة على الحيط "بشر" سمع استنجاد، نفس صوت الست اللي المفروض اتقتلت. فضلت تصرخ:

-إنقذونا، إنقذونا.


إيه؟ مماتتش؟ حتى لو، إزاي تبقى مضروبة بالرصاص وتقدر تصرخ بالشكل ده، إزاي عندها طاقة للصريخ والتخبيط؟ وفين جوزها؟ ومين أصحاب الأيادي التانية اللي خبطت معاها؟


بعد ما هدي شوية، جه ف باله حاجة تانية، مبقاش خايف بس على نفسه، لسه في ولادهم!

لكن المفروض إنهم خرجوا بره الأوضة وجريوا، هم ف أمان، أكيد ف أمان، بعكسه هو....


رفع السماعة تاني وحاول يكلم الريسيبشن، الرقم مكنش عايز يجمع، مفيش فايدة، كان لازم يخرج بنفسه ويروح يستنجد. هو أكيد فيها مخاطرة إن القاتل المجنون يقفشه ويقتله قبل ما يلحق يوصل لحد يساعده لكن الأكيد إنه لو كان فضل في الأوضة والقاتل عارف إن في حد حاجزها هيكسر الباب عليه ويقتله، مجنون بقى أي حاجة متوقعة منه. الاحتمالات ف صالح الاختيار الأول، يحاول يهرب...



وهو بيفتح باب أوضته سمع صوت باب تاني بيتفتح.. للأسف متأخر! متأخر إنه يقفل باب أوضته عشان أكيد القاتل هيسمع الصوت وقبل ما يقفله هيكون اقتحم عليه الأوضة.


مكنش عارف بيعمل إيه بالظبط لكنه لقى نفسه بيخرج. شاف الراجل واقف جنبه في الطرقة قدام الأوضة التانية، هدومه مليانة دم ورافع المسدس بتاعه، شعره منعكش وعينه مليانة غضب. الراجل جتله لوثة، نظراته مش طبيعية أبدًا..


لازم يبقى شجاع، مش هيموت جبان، مينفعش لا يصرخ ولا يترجاه يخليه يعيش، كده كده ده مكنش هيحصل، مكنش هيسيبه.

"بشر" وقف قدامه. أنفاسه انتظمت. غمض عينه والقاتل جي عليه. الراجل وصل لعنده وعدى من خلاله وكمل طريقه!


"بشر" اتلفت وهو مخضوض لمطرح ما كان الراجل رايح. ف آخر الممر ظهرت طفلة وبعد شوية طفل تاني، ولادهم، أكيد ولادهم.

مكنش بيبصله ولا مدرك وجوده أصلًا، عينه كانت متركزة عالطريق قدامه، على مهمته اللي لسه مخلصهاش.

البنت قالت:


-ماما فين؟ هي قالت إمشوا بس مجتش ورانا، ماما فين يا بابا؟


شفايفه اتحركت، ابتسامته وسعت ورفع المسدس وضرب رصاصتين، رصاصة في اتجاه البنت ورصاصة ف اتجاه الولد...


ده مبيحصلش دلوقتي، دي حادثة قديمة، قديمة.. هو ده اللي ردده في دماغه بعد ما غمض عنيه، على أساس ده يعني هيهون الموضوع، إنه ماضي ، أحداث حصلت ف زمن بعيد وخلصت...


لما فتح عينه ملقهمش وباب أوضتهم كان مقفول. دخل أوضته. من كتر التوهة والحالة اللي كان فيها ساب بابه مفتوح. اترمى على السرير على بطنه، عينه اثبتت في اتجاه معين، عقله مش مبطل تفكير، وسيل الذكريات بيهجم عليه. النوم مكنش مهرب علشان كان الشريط هيتكرر في الحلم، عشان كده غمض عينه ونام، أهو على الأقل يريح جسمه من الصدمة اللي اتعرض ليها....

.....................................

احنا الخمسة اتجمعنا تاني يوم الصبح ف قاعة الفطار، جمعتنا طرابيزة واحدة، وفي حاجة تانية مشتركة غير الطرابيزة، الإرهاق اللي على وشوشنا!


تقريبًا كلنا عيوننا كانت منفخة والسواد زاحف تحتها، مبلمين، مش قادرين ناكل، مش بنبص لبعض...


أنا كنت أول واحد أتكلم:


=إمبارح بليل حصلت حاجة، هو أنا مش عارف أفسرها لحد دلوقتي، لكن شفت زي مشهد من الماضي، مشهد بشع، المشكلة مش بس في اللي شفته، لكن ف إنه يشبه لحد كبير حادثة حصلت معايا...أنا حياتي مرت ب 3 مراحل، الأولى لما كنا مع بعض في المدرسة، بيوتنا شبه بعض وأذواقنا وهدومنا وكل حاجة... المرحلة دي انتهت لما بقى عندي 10 سنين وده لإن....الحاجة الي كنت مخبيها هو إني لما كنت ف زيارة لمصنع أبويا. قررت أقرب للمكنة اللي دايمًا كانت بتشدني. الكل كان سرحان، محدش واخد باله مني. روحتلها، مديت دراعي تحت الإيد الضخمة بتاعة المكنة ودوست على زرار. اللي خد باله مش أبويا، عامل... جري عليا، مد إيده يشيل دراعي وملحقش يسحب دراعه. دراعه كله لحد الكتف اتقطع!


اتنقل المستشفى لكن النزيف كان كتير أوي، حصلتله صدمة ومات....



أبويا صرف مبالغ ضخمة على أسرة العامل. أبويا أصله راجل عنده ضمير، لكن الموضوع مخلصش لحد كده، هو صرف أكتر على علاجي النفسي، ودخل ف حالة اكتئاب لما شاف أحوالي بتدهور، من سن 10 ل 16 ، اللي هي المرحلة التانية كنت لسه معاكم ف المدرسة وعلى ما يبدو إني مفياش حاجة، لكن أول ما ببقى لوحدي بتجيلي نوبات وهلاوس، حاولت كذه مرة أنتحر... شغل بابا ومصنعه بدأوا يقعوا ونفسيًا هو اتدمر أكتر مني، كنا بنصرف في الفترة دي من الفلوس اللي محوشينها، مكنش في أرباح تقريبًا، لحد ما الفلوس خلصت، وجت المرحلة التالتة، مرحلة الواقع. اتنقلت لمدرسة وشقة مختلفة عشت المستوى الحقيقي الجديد بتاعي مع أهلي. التحسن كان موجود، بس كان على خفيف، وحدة وحدة لحد ما اتخرجت واشتغلت ووصولًا للنهارده، لقعدتي معاكم. مش غريبة إني أنا اللي أشوف طيف الولد اللي الباب قفل عليه ف أوضة المحركات؟


"مصطفى" رفع راسه وقال:


-امبارح قررت أروح قاعة حمام السباحة لوحدي. سمعت طرطشة ميه بس لما وصلت ملقتش حد. نزلت الميه. غمضت عيني وبدأت أنام. ساعتها في حد حاول يغرقني، بنت صغيرة بقوة مارد. بالعافية قدرت أخرج وجريت على بره. كنت لسه سامعها وهي عايزاني أفضل، عايزه أي حد معاها. في حاجة عمري ما قلتهالكم، وأنا عندي 7 سنين كنت ف حمام السباحة اللي في النادي.. الحمام كان زحمة جدًا، في تكتلات بشرية رهيبة .لمحت بنت صغيرة، يمكن كانت في سني ساعتها ، كانت بتعوم لوحدها. ف لحظة كانت على سطح الميه واللحظة اللي بعدها اختفت. بصيت ف كل الاتجاهات ملقتهاش. طنشت وكملت عوم. لو كنت نبهت المنقذين أو الناس كانت البنت فضلت عايشة. غرقت، رجلين الناس خبطت فيها ومقدرتش تطلع عالسطح وأنا الوحيد اللي كان ممكن أنقذها. البنت اللي ف حمام السباحة اللي هنا مش هي نفسها اللي غرقت في النادي زمان وغالبًا قصصهم مختلفة، لكن ليه أنا اللي أشوف الشبح ده، ليه أنا اللي أقرر أروح القاعة وأعوم عشان أقابلها وتحاول تأذيني؟


"ريان" كمل:


-أنتوا عارفين إن بابا دكتور واشتغل ف أماكن كتير بره مصر، جزء ماللي كان بيعمله كان تطوعي. بيروح دول فقيرة وبيقدملهم رعاية صحية. قرر ياخدني مرة ف رحلة من رحلاته ف الصومال. كان في مخيم هناك، ناس فقيرة جدًا لدرجة مش عايشة ف بيوت من طوب ولا لاقيه تاكل. في وباء انتشر ف المخيم. وكان في خيمة عزل، الأعداد اللي بتعيا كل ثانية كانت مهولة. بابا طبغًا مكنش يعرف إن في وباء أصلًا. كان رايح يقدم مساعدات عادية، يعالج برد وانفلونزا وسكر. لكن مقدرش يهرب من واجبه، وف نفس الوقت كان هيموت من القلق عليا. كنت بتلفح بإيشارب على وشي كله عشان متعديش، بشوف الناس حواليا بيقعوا، واحد وره التاني كإن حد بيضربهم بأسلحة، كإن في مدفع خفي. برغم إني كنت طفل بس كنت حاسس بعجز رهيب إني مش قادر أعمل حاجة، وخيمة العزل كانت تشبه الجحيم، اللي خرج منها عايش مكنش عايش فعليًا، كإنه كان ف ساحة حرب وكل واحد مات موت معاه حته... إمبارح شفت أوضة العزل في السفينة، على مدار السنين ناس أكيد عيت كتير وهم مسافرين واتعزلوا ف الأوضة دي وأكيد برضه أعداد كبيرة ماتت. بسأل نفسي ليه أنا اللي شفت أشباح المرضى دول عشان أمشي وراهم أوضة العزل واتعزل معاهم من دكتور شبح مجنون وأعيش مأساتهم من أول وجديد.



جه الدور على "عباد":


-من 6 سنين، ف ليلة ما كنت ماشي بالعربية على الكورنيش، الدنيا كانت فاضية، أصل الأجواء كانت صعبة، برد رهيب وسيول.. بس أنا كنت غلطان، مكنتش لوحدي، في حد تاني كان وجود، ست واقفة على السور، متنحة ف الميه. نظرتها... هي مكنتش حزينة، هي تخطت ده، عارفين النظرة اللي بيبقى فيها فراغ، زي ما تكون طاقة الواحد خلصت، عواطفه اُستنزفت وحاسس إنه منهك، مرحلة أبشع بكتير من الانهيار والزعل، اللي ف خلالها ممكن الواحد ياخد قرارات سودة، قرارات ميقدرش يرجع فيها. اللي عملته إني بعد ما بطأت بالعربية رجعت سرعت ومشيت وسبتها. مشفتش حاجة، ملحقتش، بس أنا متأكد زي ما أنا قاعد معاكم دلوقتي إنها نطت، انتحرت...وكان ممكن جدًا تكون مستنية نداء ولو من شخص غريب، مني مثلًا، نداء يقول لها إرجعي، متعمليش كده، تعالي معايا، إحكيلي أو خليكي ساكته بس متبقيش لوحدك... أنا بقى قابلت عالسفينة ست تخطت مرحلة الألم وبقت تايهة، مش فاكرة حتى إسمها، لحد ما شفت دم بينتشر ف فستانها الأبيض، دمها هي، وزي الست اللي شفتها من سنين قررت تنهي حياتها، مش قادر أفسر اللي شفته، شبح، طيف من الماضي، السفينة بتحكيلي، معرفش. اللي أعرفه إني عشت تقريبًا نفس التجربة بس المرة دي حاولت أبقى إيجابي، شايفين ، حتى لما حاولت النتيجة كانت واحدة.


وأخيرًا "بشر" قال:


-مش حاجة مستخبية يعني، إنتوا عارفين قد إيه أنا كنت مراهق مزعج، بتاع مشاكل وعامل فيها صايع، مكنتيش بسيب حد ف حاله، حظكم بس إنكم كنتوا صحابي فمتأذتوش، حتى جيراني مسلموش مني... عملت مقلب ظريف من وجهة نظري. كنت بسمع الراجل ومراته دايمًا بيتخانقوا، ومرة سمعت كلام وضاح، كان بيتهمها إنها على علاقة بجار تاني وهي كانت بتنفي ده وبتقول له إنه مجنون ومتوهم. الحركة الروشة اللي عملتها بقى إني قال يعني بمنتهى البراءة قلت للراجل إني شفت مراته على أول الشارع بتركب عربية الجار التاني، على أساس كنت بسأل على ابنهم الصغير وعلى طنط فلما قال لي إنه برغم إن يومها كان يوم إجازة رسمية، بس مراته الشغل نزلها فقلت علطول "إزاي أنا لسه شايفها وركبت مع عمو الفولاني العربية" الراجل دمه غلي ف عروقه. كنت متخيل هيتخانقوا، هيضربوا بعض، هتسيب البيت يومين وترجع، لكن مكنتش أتخيل إنه هيقتلها ويقتل إبنه الصغير وف الآخر يقتل نفسه. إنتو استغربتوا لما لقتوني فجأة اتحولت، قربت من ربنا وانتظمت في الصلاة وبقيت حساس أوي، بخاف أعمل أي حاجة تغضبه، والحال استمر ليومنا ده ومع ذلك.... لحد دلوقتي ضميري بيموتني، مش حاسس إن دي غلطة ربنا ممكن يغفرهالي. واضح إن في قصة تشبه دي، مش شرط يعني شك وخيانة وكده، بس في راجل من زمن الزمن قتل مراته وولاده في الأوضة اللي جنب الأوضة اللي نزلت فيها، أظن عشان أفلس أو اتداين أو حاجة زي كده، وده بقى اللي عشته الليلة اللي فاتت.




مش بس اللي حصل في السفينة بيثبت إن حياتنا بتلف ف دواير متكررة، دي كل التجارب بتاعتنا، بننتهي ف نفس الأماكن، مع نفس النفوس ، بنعمل نفس الاختيارات وبنفكر بنفس الطريقة، ليه ميكونش من ضمن ده أقدارنا، القصص اللي بنعيشها أو بنشهدها حتى لو إحنا مش طرف فيها.



اللي أنا بقيت متأكد منه إن الناس اللي بتعدي من السفينة وتمشي مترضاش تبات إحساسهم صح، حتى لو مشفوش حاجة، السفينة تنفع متحف مفتوح مش مكان للإقامة عشان الأموات هنا بيزاحموا الأحياء.....





تعليقات