قصة مبنى جهنم للكاتب محمد شعبان
أحيانًا الظروف بتحطك في مواقف انت في غنى عنها، ومش بس في غنى عنها، ده انت حياتك الصعبة بتخلي المواقف دي لو كانت صعبة قيراط، تبقى صعبة ٢٤.. وانا بقى ظروفي ماحطتنيش في مُجرد موقف، انا اضطريت لسبب ما هتعرفوه لما احكي حكايتي، إني اعيش أسوء ليالي حياتي جوة مبنى جهنم!
حكايتي بدأت من حوالي اربع سنين، بالتحديد يعني من وقت ما اتقفلت البيبان في وشي ومابقتش لاقي شغل، ولأني شاب صعيدي مايملكش غير صحته ودبلوم صنايع، فانا اضطريت اسافر لدولة عربية من الدول اللي فيها حرب، والمفروض اني كنت هسافر للبلد دي انا وكام واحد معايا عشان نشتغل في أعمال بُنا، او بالبلدي كده خليني اقول إننا سافرنا نشتغل فواعلية.
كنا خمس شباب، كلنا من الصعيد، قدرنا عن طريق معارفنا إننا نسافر وبدأنا شغل مع مقاول مصري زينا، والمقاول ده كان رئيسه في الشغل، او مدير المشروع اللي هو بيشتغل فيه، شخص عربي مافيش داعي لذكر جنسيته، بس الشغل ماكنش هو المشكلة، احنا مشكلتنا كانت في المبيت اللي كان عبارة عن أوضتين عايشين فيهم الخمس شباب اللي انا واحد منهم، والأوضتين دول كانوا موجودين في مبنى صغير كده قريب من المشروع، وبقية الأوض اللي حوالينا كانوا ساكنين فيهم عمال تانين من مختلف الجنسيات؛ الأفريقي والعربي وغيرهم كتير من جنسيات مختلفة.. واستمر الوضع على ما هو عليه واحنا راضين وعايشين، بالنهار بنشقى وبيطلع عين اللي جابونا عشان نبعت لأهالينا فلوس اخر كل شهر، وبالليل نتزَنق وننام عالأرض، لكن دوام الحال من المُحال، او بمعنى تاني، رضينا بالهم والهم مش راضي بينا.
في ليلة من الليالي صحينا احنا الخمسة على صوت خبطة قوية من الدور اللي فوقينا، في الأول كنا فاكرينها خبطة، لكننا لما صحينا وابتدينا نفوق، عرفنا إنها مش خبطة عادية والسلام، ده كان صوت انفجار انبوبة غاز!
النار مسكت في الأدوار اللي فوقنا والدخان ملى المكان، ورغم الخوف والرعب وصرخات الكُل وقت الليل، جريت انا والاربعة اللي معايا وخرجنا للطرقة ومنها للسلم، ومن السلم لبرة المبنى خالص، وبعد ما خرجنا، وقفنا كلنا نبص للتلات أدوار اللي فوق الدور بتاعنا، النار تقريبًا كانت مسكت في كل حتة، والدخان كان خارج مع لهيب النار من كل فتحة من فتحات الأوض، ومع وقوفنا كمان لاحظنا إن في عمال غيرنا قدروا يهربوا ويخرجوا من المبنى زي ما احنا خرجنا.. واستمر الوضع على كده لمدة ربع ساعة، اللي خرج ونجي بنفسه، ربنا كتبله عُمر جديد، واللي ماخرجش، ف بالتأكيد اتفحم جوة، وبعد الربع الساعة ما عدت، وصلت عربية مطافي وقدرت تطفي الحريقة، ووقت ما كانت المطافي بتطفي النار اللي تقريبًا كانت ابتدت تهدا لوحدها بعد ما أكلت كل اللي جواها، جت عربية أسعاف عشان تشيل المصابين، ده إذا كان في مصابين من أصله، كده كده كلنا كنا متأكدين إن اللي جوة خلاص ماتوا.. واللي حسبناه طلع مظبوط، عربية الأسعاف راحت وجت حوالي ١٢ مرة.. وال ١٢ مرة كانوا ب ١٢ جثة متفحمة.
ولحد هنا بينتهي الموضوع وبنعرفله تفسير، والتفسير ببساطة كده إن واحد من سكان الدور التاني، او الدور اللي فوق الدور بتاعنا على طول، اشترى أنبوبة غاز عشان يسوي عن طريقها أكل، ومن حظه وحظنا المدوحس إن الأنبوبة طلعت منفسه وانفجرت وهو مشغلها، ده اللي عرفناه، بس اللي ماكناش عارفينه ليلتها، احنا هننام فين؟!
والحمد لله اجابة السؤال ده ماخدتش وقت طويل عقبال ما عرفناها، وده لأن المقاول اللي مشغلنا جه هو وواحد تاني معاه، وبعد ما جالنا ووقف معانا قالنا...
(ماتقلقوش يارجالة، المبنى هيتصلح من بكرة على حساب الراجل اللي ماسك المشروع اللي بتشتغلوا فيه، ولحد ما المبنى يتصلح، فانتوا هتروحوا مع خالد اللي شغال تحت إيدي لمكان تاني هتباتوا فيه، ماتقلقوش، انا ماكنتش هسيبكوا تباتوا في الشارع)
كلامه بالنسبة لنا كان زي طوق النجاه، احنا طول النهار شقيانين وحقيقي كنا جعانين نوم، وعشان كده بعد ما سمعنا كلامه، خدنا بعضنا ومشينا ورا خالد لحد ما وصلنا لمبنى موجود في مكان بعيد شوية عن المبنى اللي كنا عايشين فيه، تقريبًا نص ساعة مشي، لكن الغريب في المبنى ده إنه كان حواليه مباني تانية شبهه، حوالي ٣ او ٤.. مش فاكر اوي، هو اللي انا فاكره إن المباني كانت شبه بعض!
ماهتميناش بالمباني ولا بأشكالها وطلعت انا والاربعة اللي كانوا معايا وحوالي ٢٠ نفر كمان للمبنى، كان واضح إنه مقفول وماحدش دخله من مدة كبيرة، فتحلنا خالد بابه الحديد بمفتاح كان معاه وطلعنا، ومع طلوعنا كل شوية مننا اختاروا دور معين وقعدوا في الأوض اللي فيه، ولأننا احنا الخمسة طبعًا كنا مُرهقين ومش قادرين نتكلم، فبقية الناس اختاروا الدور الأول والتاني، اما احنا بقى، فكان من حظنا الدور التالت والأخير.
طلع معانا خالد للدور وفتح لنا الأنوار وكل واحد مننا أخيرًا خد أوضة لوحده، كنا فرحانين اوي، لا فرحانين ايه، ده احنا كنا طايرين من الفرحة بسبب إن كل واحد فينا أخيرًا هينام في أوضة لوحده.. وبعد ما قعدنا واستقرينا، فرشنا البطاطين على أراضي الأوض وفردنا جسمنا، وكل واحد ابتدا ينام، إلا انا.. انا ماكنتش عارف انام، وحقيقي ماعرفش ليه، هل لأني ماتعودتش اغير نومتي بعد ما اتعودت على مكان معين، ولا بسبب اللي حصل قبل ما اتنقل للمبنى ده، بجد مش عارف.. بس ساعتها فضلت ولفترة مش طويلة، فاكر إن انا بس اللي كده، لحد ما سمعت صوت خطوات في الطُرقة، وبعد ما سمعت الصوت لقيت واحد واقفلي على باب الأوضة!.. اتعدلت في مكاني وبصيت ناحية الشخص اللي واقف قصادي وقولتله بقلق..
-ممين.. انت مين؟!
-انا الجن ابن العرفيت ياابو خالو.
ضحكت وانا بقعد نصة قعدة وبسند ضهري على الحيطة اللي ورايا..
-خش ياجمال خش.. شكلك مش عارف تنام زي حالاتي.
دخل وقعد جنبي وهو بيقولي..
-ومين يجيله نوم بس في الليلة الغابرة دي، ماعاكش سجارة؟!
-معايا.. مد يدك ناحية البنطلون، هتلاقي جواه علبة السجاير، خدلك واحدة وناولني واحدة.
جاب جمال البنطلون بتاعي من جنبه وطلع من جيبي علبة السجاير واداني سيجارة وولع لروحه سيجارة، خد نفس وبعد كده بص لي وقالي..
-التلافون بتاعي فصل الشحن، والشاحن بتاعه كان في الأوضة وسيبته وجريت ساعة الحريقة، انت تلفونك شغال؟
-ايوه شغال وعليه مواويل كمان، حاكم انا عارف إن كيفك مواويل رضا البحراوي.
-ياسلاام.. ايوه كده، طب الله يرضى عليك بقى ياأخي شغل لنا حاجة تقصر الليلة الطويلة دي وتروقلنا بالنا.
هزيتله راسي ومسكت التليفون ولسه هشغل مقطع لرضا البحراوي، فجأة النور اتقطع والموبايل ضلم!
الله!.. طب ما النور يقطع، عادي، بتحصل في البلد دي كتير، بس إن التليفون المحمول بتاعي يضلم ويفصل مع قطع النور، اهي دي الحاجة الغريبة اللي خلتني ابص ناحية جمال واقوله..
-النور قطع والتليفون فصل!
ماكنتش شايف جمال، بس كنت سامعه كويس لما قال لي وهو بيضحك..
-جديدة دي، النور يقطع يقوم التلفون مضلم، انت كنت موصله بالكهربا ولا ايه ياابو صلاح.. ما تشوفه كده لا يكون البطارية بتاعته باظت ولا..
قطع كلام جمال صوت صرخة قوية جت من برة الاوضة، بالتحديد من ناحية الطرقة، ولأن باب الأوضة اللي كنا قاعدين فيها كان مفتوح، فاحنا قدرنا نسمع صوت الصرخة بوضوح.
وقتها قام جمال من مكانه، حسيت بيه وهو بيقوم وسمعته وهو بيقول بلهفة..
-ده صوت الواد عطوة.. هو خد الأوضة اللي جنب الأوضة اللي انا خدتها، قوم بينا لما نشوف ماله بيصرخ كده ليه؟!
لحظة ما جمال قال كده، ماعرفش خوفت ليه؟!، انا راجل صعيدي وماتربتش على الخوف ولا عمري عرفته، إنما في الوقت ده، حسيت ولأول مرة في حياتي يعني ايه خوف بجد؛ ريقي نشف، حسيت بالعرق بيسري بين ملامحي، اما ركبي وايديا، فكانوا بيترعشوا وكأننا قاعدين وسط جبال من التلج!.. مرت ثواني فضلت ساكت فيهم لحد ما قطع سكوتي جمال..
-ما تقوم يامحمود ياصلاح خلينا نشوف الواد ماله؟
كنت هرد عليه، وقبل ما اقوله بلاش نخرج من الأوضة وخلينا في مطرحنا لحد ما النور يرجع، سمعنا مرة صوت واحد تاني مننا، كان صوت محمد فوزي صاحبنا اللي سمعناه بوضوح وهو بيقول..
(لا.. بالله عليك لا ياداكتور... استهدى بالله وارمي المشرط اللي في يدك ده وابعد.. ابعد وانا همشي اول ما النور يجي.. وكتاب الله المجيد همشي.. لاااا ياداكتوور.. لاا)
وبعد اخر كلمة قالها صرخ بعلو صوته وبعد كده سكت، لكن السكوت مادامش كتير، وده لأننا فجأة سمعنا شباك الأوضة اللي احنا فيها وهو بيتفتح بكل قوة، ومع فتحته وبسبب النور البسيط اللي دخل منه، قدرنا نشوف اللي جمدنا في مكاننا؛ قصاد الأوضة اللي كنا فيها بالظبط كان في اتنين واقفين، ملامحهم مش باينة اوي، بس هيئتهم كانت واضحة، كانوا طول بعرض، واللي خوفنا منهم مش طولهم وعرضهم، احنا اللي خوفنا إننا افتكرناهم حرامية.
-لا يابلدينا بالله عليك ماتموتناش، انتوا لو جايين عشان تسرقونا، فاحنا وربنا ماحليتناش حاجة تتسرق.
لما جمال قال كده، مسكته من دراعه وشديته لتحت وقعدته جنبي وانا بقوله بصوت واطي..
-لا ياجمال، لا، قلبي حاسس إنهم مش حرامية.
-اومال هيكونوا ايه، عفاريت اياك؟
وبمجرد ما نطق كلمة عفاريت دي، لقيتهم بيقربوا ناحيتنا، ومع قربهم شوفناهم بوضوح اكتر، الاتنين كانوا رجالة لابسين لبس مموه زي اللي بيلبسه الجيش، لبسهم كان مليان بقع، وبالمفهومية كده ماخدتش وقت كبير عشان افسر إن البقع دي تبقى بقع دم!
اتشاهدت في مكاني لما سمعت جمال من جنبي وهو بيقرا كل اللي حافظه من قرأن، وفي لحظة حسيت إن الزمن وقف، مافيش أصوات، مافيش رؤية، مافيش احساس بأي حاجة، الشباك اللي فوقنا فضل يتفتح ويتقفل بسرعة، وفي نفس الوقت كنت حاسس بتلطيش على جسمي ووشي، ولما بقول تلطيش فانا ماقصدش ضرب بسيط، لا.. ده كان ضرب شديد بالاقلام على جسمي انا وجمال، لدرجة اني من شدته سمعته وهو بيقول بصوت عالي وكأنه بيستغيث..
-كفاية.. كفاية بالله عليكوا.. احنا هَنمَشي من هنا، كفاية ياعالم هو احنا في معتقل؟!
وبعد ما الضرب خف شوية، الشباك اتفتح على اخره من تاني، وفي اللحظة دي وقفوا الضرب فينا وسمعت واحد منهم وهو بيقول بصوت تخين، اتخن من صوت أي بني أدم سمعته قبل كده..
(امشوا.. امشوا.. امشوا)
قال كلمة امشوا تلات مرات وبعدهم الشباك اترزع واتقفل خالص، وبعد ما اتقفل سمعت صوت صفارة قوية في وداني، صفارة من قوتها ماقدرتش اعمل اي حاجة غير إن انا حطيت ايديا على وداني الاتنين واتكومت في مكاني وفضلت اصرخ واصرخ، لحد ما كل حاجة وقفت وفجأة النور رجع!
شيلت ايدي من على وداني وبصيت حواليا، المكان كان ساكت وجمال متكوم عالأرض جنبي وهو حاطط إيديه الاتنين على راسه وعمال يقول (لا لا)!
زقيته عشان يفوق من الحالة اللي هو فيها، وفعلا فاق، واول ما فاق بص لي وبرق وطلع يجري من الباب وهو بيصرخ وهو بيقول بعلو صوته..
-هَنمَشي.. هَنمَشي.. والله العظيم هَنمَشي.
قومت من مكاني بسرعة وطلعت اجري وراه، وفضلنا نجري بكل سرعتنا على السلالم لحد ما خرجنا من المبنى خالص، واللي اكتشفته لما نزلنا ووقفنا قصاد باب المبنى، إن كل العمال اللي كانوا فيه، بما فيهم محمد فوزي وعطوة اصحابنا، كلهم كانوا زينا.. كل واحد فيهم كان واقف بيترعش في مكانه وهو بيبص للتاني.. فات على الوضع ده ثواني من السكوت لحد ما اتكلم عطوة وهو بيبصلي وبيشاور عالمبنى..
-المكان ده متعفرت، انا كنت نايم وفجأة سمعت حواليا صوت نكش، وبسبب الصوت صحيت من النوم، بس اول ما فتحت عنيا لقيت راجل طويل واقف قدامي، ومادانيش فرصة اتكلم ولا انطق ابن الجزمة، ده فضل يلطش فيا ويزقني من مكاني لحد ما خرجني برة الأوضة خالص، كل ده وهو بيضربني وبيقولي امشي من هنا.. ساعتها ماعرفش جت لي القوة منين ونزلت اجري من المبنى اللي كان نوره كله قاطع، ولما نزلت لقيت عمال كتير واقفين تحت وعمالين يقولوا إنهم شافوا ناس بتطردهم من أوضهم.
بعد ما خلص عطوة كلامه، بص لنا محمد فوزي وقعد على الأرض وابتدا يحكي اللي شافه..
-انا مانمتش، انا كنت صاحي وبشرب سجارة، واول ما النور اتقطع لمحت بسبب الضوء البسيط اللي كان جاي من الشباك اللي فوقي، واللي كنت سايبه مفتوح، لمحت راجل لابس لبس الدكاترة، كان لابس بالطو ابيض مليان دم وكان ماسك في إيده مشرط!.. قرب مني وقالي لو مامشيتش هدبحك، فضلت اصرخ واهلفط بأي كلام عشان اشغله وانا بتحرك من مكاني، واول ما وصلت عند باب الأوضة خرجت منها ونزلت جري لبرة المبنى، ومع خروجي لقيت عطوة والعمال واقفين، وانتوا أخر ناس نزلتوا.. هو انتوا شوفتوا اللي احنا شوفناه ولا ايه؟!
لما فوزي سأل السؤال ده، جمال بص لي وبعد كده بص للمبنى وحكى كل اللي حصل لنا، وفي الوقت اللي كان بيحكي فيه، انا ماكنتش مهتم بأي حاجة غير العمال اللي واقفين، كلهم كانوا مرعوبين ومفزوعين، عينيهم كانت بتحكي إنهم شافوا اللي ماحدش يستحمله، إنما العمال وانا وجمال وعطوة وفوزي وكل حكايات الرعب دي ماشغلتنيش، انا اللي شغلني كان صاحبنا الخامس، محمد عبد الهادي، ماكنش له أثر وسط كل اللي واقفين!.. وعشان كده واول ما لاحظت اختفاءه غصب عني سألت بصوت عالي..
-هو عبد الهادي فين؟!
سكت جمال ووقف كلام عن اللي شوفناه، وفي ثانية هو وعطوة وفوزي بصوا حواليهم وبعد كده بصوا للمبني، ملامحهم كانت مليانة حيرة على قلق، وبعد ما أدركوا إن عبد الهادي لسه فوق اتكلم جمال وقالي..
-ياليلة مش فايتة، هو لسه فوق؟!
ماستنتش كتير ولا اهتميت بأي حاجة غيره، انا فجأة كده لقيت نفسي بطلع جري ناحية أوضته، ومن حسن الحظ إن جمال وعطوة كانوا بيجروا ورايا لحد الأوضة، الأوضة اللي أول ما دخلناها لقينا عبد الهادي واقع على الأرض ومغمى عليه!
شيلناه احنا الاربعة ونزلنا بيه وحاولنا نفوقه احنا والعمال وناس تانية ماعرفش جُم منين، لحد ما الحمد لله فاق، واول فاق وسألناه عن اللي شافه وخلاه يغمى عليه، قالنا بصوت واطي ماليه التعب والخوف..
-انا كنت نايم زي القتيل من تعب اليوم والمرمطة اللي شوفناها لحد فجأة صحيت على قلم ووراه ضرب كتير، ماعرفتش مين اللي بيضربني ولا بيضربني ليه، بالعربي كده انا اتغفلت، بس وسط الضرب لمحت منظر خلاني غصب عني غيبت عن الدنيا، انا شوفت جنبي على الأرض بسبب نور الشباك اللي فوقي، راجل رقبته مفصولة عن جسمه، كان وشه غرقان دم، وبسبب الضرب والمنظر اللي مافيش بني أدم يستحمله ده، غمضت عيني وماحستش بروحي إلا دلوقتي.. هو ايه اللي حصل وايه اللي انا شوفته ده، وايه اللي جابني هنا؟!
اتدخل جمال وحكاله كل اللي مرينا بيه وهو فاقد الوعي، وبعد ما جمال خلص كلامه، قرب مننا واحد من الناس اللي واقفين واللي ماعرفش جم منين ولا جم امتى، كان شاب لهجته بتقول إنه من دولة عربية غير الدولة اللي احنا فيها، الشاب ده اتدخل وسط كلامنا وسألنا سؤال غريب..
-وانتوا ايه خلاكوا تناموا في مبنى جهنم؟!
بصيتله وانا مستغرب ورديت على سؤاله بسؤال..
-مبنى جهنم!.. يعني ايه مبنى جهنم؟!
جاوبني وهو بيوزع نظراته على كل اللي واقفين..
-انا من سكان المباني اللي حواليكوا دي، احنا كمان عمال وساكنين هنا، بس اول ما جينا في شوية مننا قعدوا في المبنى ده، وماكملوش ليلة واحدة وخرجوا منه جري زي ما انتوا خرجتوا تمام، ولما سألناهم شوفتوا ايه، حكوا لنا حكايات زي اللي حكتوها دي، وفي الأخر جم وسكنوا في المباني التانية، يعني بدل ما كان كل واحد فيهم ساكن في أوضة لوحده، اتوزعوا على بقية المباني والمبنى ده اتقفل.. وقبل ما تسألوني هو اتقفل ليه وليه سميناه مبنى جهنم، فانا هحكيلكوا.. احنا بعد الليلة اللي مروا بيها العمال، سألنا عن أصل المبنى ولقينا تفسير للي شافوه؛ المكان اللي احنا واقفين فيه ده، كان زمان مدرسة، المباني اللي حوالينا دي كلها كانت مباني مدرسة، او مجمع مدارس، ولما الحرب قامت عملوا المبنى ده مستشفى ميداني، يعني مبنى محايد، لا ينفع تقرب منه قوات النظام ولا ينفع تقرب منه قوات الثوار، لكن اللي حصل غير كده، في يوم اشتد فيه الضرب والمبنى كان مليان مصابين، يومها عدت طيارة من فوق وقصفته وكل اللي جواه ماتوا.. دكاترة على ممرضين على مصابين، كلهم ماتوا، وبعد ما الضرب خلص والهدنة حصلت والضرب وقف في المدينة كلها، اترمم المبنى وبقى هو والمباني اللي حواليه سكن للعمال اللي بيشتغلوا في إعادة إعمار المدينة، بس كل المباني كانت عادية، ساعات اه بنشوف خيالات وبنسمع اصوات صرخات، إنما المبنى ده لا، المبنى ده الوحيد اللي بيظهروا فيه عيانًا بيانًا كده، ومافيش راجل ابن راجل بيعرف يبات فيه حتى لو لليلة واحدة.
حط جمال إيده على راسه وقعد على الأرض..
-طب والعمل!.. احنا المبنى الأساسي اللي كنا ساكنين فيه ولع، وهو بعيد عن هنا هو والمشروع اللي بنشتغل فيه، طب احنا كده هنروح على فين ولا هنتنيل ننام فين الليلة دي؟!
رد عليه الشاب وهو بيحط إيده على كتفي..
-ماتشيلوش هم، احنا في مننا كذا واحد عايش في أوضة لوحده، يعني ممكن انت وبقية العمال اللي معاكوا تباتوا معانا لحد الصبح، ولما النهار يطلع وتقابلوا المقاول اللي شغالين معاه، تبقوا تقولوا له على اللي حصل وتتفقوا معاه على مكان تاني تباتوا فيه.
والاقتراح اللي قاله الشاب ده اتعمل، وفعلًا روحنا معاه وكل واحد فينا نام مع عامل من اللي موجودين في أوضته لحد ما النهار طلع، ومع طلعة النهار وبعد ما جالنا خالد وروحنا على شغلنا، حكينا للمقاول على اللي حصل لنا في المبنى المرعب ده وقولنا له إننا مستحيل نبات فيه، ومش بس كده، ده احنا كمان رفضنا نبات في المبنى الأساسي بتاعنا بعد مات جواه ١٢ بني أدم بسبب انفجار الأنبوبة، ولأن المقاول كان راجل محترم وكان بجد يهمه إننا نبقى مرتاحين عشان نعرف نشتغل، فهو مشكورًا يعني شافلنا سكن تاني والمبنى اللي احنا كنا فيه اتقفل وبقى مهجور هو كمان زيه زي مبنى جهنم.. ومن بعد اليوم ده كملنا شغلنا وفضلنا شغالين كام شهر لحد ما نزلنا مصر، بس من وقتها واحنا كلنا مش زي الأول، انا وجمال وعطوة ومحمد فوزي، ايام كتير بنصحى على كوابيس كلها متعلقة بالليلة اللي مرينا بيها جوة المبنى، اما محمد عبد الهادي بقى فده اللي حاله اتقلب، بقى معظم الوقت ساكت ومابيتكلمش مع حد، واوقات كتير يبقى واقف مع نفسه كده وفجأة نلاقيه بيبص حواليه ويتكلم بصوت واطي مع حد، او مش حد.. هم كتير، يعني كأنه بيكلم ناس موجودين حواليه وماحدش شايفهم غيره.
وحتى بعد ما سافرنا ورجعنا مصر ولحد دلوقتي كمان، عبد الهادي لسه على حاله، تايه ومش مظبوط، هو اه عايش حياته وبيشتغل، بس مابقاش هو محمد عبد الهادي بتاع زمان اللي بيحب الهزار والكلام مع كل اللي حواليه، وحتى احنا والله، احنا كمان كل واحد فينا مارجعش زي الاول، نومنا بقى معظمه كوابيس وفي مننا اللي راح لشيوخ وخلاهم رقوه وبقى احسن شوية، لكنه برضه حتى لو اتحسن، فعمره ما هينسى الليلة اياها واللي شوفناه فيها.. وفي النهاية انا جوايا كلمتين حابب اقولهم، المشكلة في حكايتنا مش في العفاريت ولا في مبنى جهنم ولا حتى في الحريق اللي حصل قبل ما نتنقل للمبنى، المشكلة الحقيقية هي فينا احنا كبني أدمين، المشكلة في الحرب، احنا كبني أدمين السبب في كل الكوارث والمصايب اللي بتحصل على وش الأرض، وإن كان في مكان مهجور او مليان عفاريت او حتى جواه لعنة، فبالتأكيد المبنى ده بقى كده بسبب أفعالنا وبسبب الحرب اللي الله يلعنها في كل كتاب، لكن هنقول ايه.. من يوم ما اتخلقنا على الأرض واحنا بنحارب في بعض، اللي بيضرب في ده عشان سلطة او مال، واللي بيحارب في ده عشان كرسي او سلطان، وفي النهاية اللي بيقعوا وسط الضرب هم ناس البريئة اللي مالهمش أي ذنب، بالظبط زي الدكاترة اللي ماتوا جواه.. جوة مبنى جهنم.