العفريتة بقلم محمد شعبان
(هي هتستنى حد يجي ويلبسها من بعدي، او هي اللي تلبسه، مش مهم اوي.. المهم إنها هي السبب ومن عندها البداية، العفريتة الزرقا.. هي البداية لنعيم الدنيا، ونار جهنم في الأخرة)
البداية
وانا راكب الاتوبيس وسارح مع الشوارع اللي ظاهرة من خلال الأزاز، سمعت صوت صاحبي اللي كان قاعد بيقلب في الموبايل جنبي...
-مع إن كل الخلق من أصل طين، وكلهم بينزلوا مغمضين.. بعد الدقايق والشهور والسنين، تلاقي ناس أشرار وناس طيبين.. وعجبي، يا سلام عليك يا عم صلاح يا چاهين، عظمة والله.. الراجل ده كان بيكتب عظمة، والله ما خسارة الشير في البوستات اللي زي دي... يلا، احلى شير.
بصيت لموبايله وبعد كده بصيتله وابتسمت..
-والله انت رايق ياجاد.
شال عينه من على الموبايل أخيرًا وبص لي وهو على وشه ابتسامة تعب..
-وماروقش ليه.. ما اديك شايف اهو، الحمد لله النهاردة ربنا كرمنا وكان اول يوم شغل لينا في الشغلانة الجديدة، بزمتك دي حاجة ماتخلينيش رايق!.. بقى مش عايزني انبسط لما اخيرًا لقينا شغل بعد ما فضلنا شهور قاعدين في بيوتنا بسبب الفيرس والعَطلة اللي كانت في العالم كله!.. يا ابني ده في ناس لحد النهاردة قاعدين في بيوتهم ومش لاقيين لقمة.
حطيت إيدي على خدي وسألته...
-حلو.. طبيعي انك تنبسط وتروق لما تنزل شغل بعد شهور قعدة في البيت، بس قولي بقى.. انبسطت في الشغل النهاردة؟!
اتنهد تنهيدة طويلة، بعدها قالي بنبرة صوت أوطى من نبرته المعتادة..
-يا سيدي حتى لو ما انبسطتش، مش مهم.. مش مهم انبسط، المهم دلوقتي إن انا شغال وهاخد مرتب.. هو اه الشغل مُتعب ومرهق لأننا بنفضل ساعات واقفين على رجلينا في المركز، إنما في الحقيقة بقى انا سعيد بالتعب ده، ومش بس سعيد.. انا كمان هكمل في الشغلانة وهتعلمها كويس لأن عندي فيها طموح، اه ماتستغربش.. ماتستغربش إن عندي طموح في شغل الميكانيكا، الطموح مطلوب في كل حاجة، وانا بصراحة كده بقى ناوي اتعب واتعلم لحد ما ابقى مكان المشرف بتاعنا، ولا اقولك.. مشرف ايه، انا ناوي اتعب واجتهد لحد ما ابقى مكان المدير نفسه.
-يااه.. المدير مرة واحدة؟!
-لا على مرتين.
ضحكت لما قالي كده، على عكسه، جاد كمل كلامه بجدية وقالي..
-انت بتضحك على ايه، انا مابهزرش.. انا فعلًا ناوي اجتهد في الشغلانة دي وامسك فيها بإيدي وسناني.
طبطبت على كتفه وانا باصصله بنظرة كلها أمل وحماس..
-والله عندك حق، انا اه في الأول كنت مش عايز الشغلانة وشايفها مُتعبة وأسمها مش اللي هو يعني... لكن لا، انت معاك حق، شغلانة الميكانيكي او العامل في مركز صيانة سيارات، بأذن الله هتجيب وراها شغلانة احسن، واهو على رأيك.. احسن من القعدة في البيت، يا راجل ده انا بقيت حاسس إن احمد اخويا قرب يسيبلي البيت من كتر ما انا قارفه وبستلف منه فلوس.. منه لله الفيرس المنيل ده اللي خلانا سيبنا شغلانتنا في الشركة اللي كنا شغالين فيها.
لما قولتله كده، اتكلم جاد بسرعة وقالي..
-يا سيدي وادينا الحمد لله اهو نزلنا شغل، يعني بدل ما تدعي على الفيرس، ادعي لخالي اللي كلم صاحبه وخلانا ننزل نشتغل في المركز.
بعد ما قال لي كده كح شوية، وبعد ما كحته هديت نسبيًا، فضلنا ساكتين لحد ما قطع صمتنا صوت جاد..
-ألا بالحق صحيح، احمد عامل ايه في حياته؟!
-تمام.. لسه زي ما هو شغال في شركة الشحن اللي بيشتغل فيها، وبصراحة طالع عينه، من المحافظة دي للمحافظة، كل يوم بيوصل طرود أشكال والوان، الله يعينه.. طالع عينه عشان يتجوز خطيبته اللي خاطبها من سنتين.
-ربنا يعينه، اخوك احمد ده مافيش منه، يكفي إنه رباك كأنك ابنه من بعد وفاة الحاج والحاجة الله يرحمهم.
-الله يرحمهم ويخليلك عم طه والحاجة.
-عيشت يا اخويا.
لما جاد قالي كده، سمعنا صوت سواق الأتوبيس وهو بيقول إننا وصلنا للمكان اللي المفروض هننزل فيه.. قام جاد وقومت بعده ونزلنا
احنا الاتنين من اتوبيس الشغل، بعد كده فضلنا نتمشى لحد ما طلع هو بيته اللي على أول شارعنا، وانا كملت بقية الشارع لحد ما وصلت لبيتنا، دخلت الشقة اللي ماكنش فيها حد طبعًا لأن انا واحمد اخويا الكبير عايشين فيها لوحدنا من بعد ما ابويا وامي ماتوا، وبما إن احمد دلوقتي في الشغل، فطبيعي إن الشقة تكون فاضية.
اول ما دخلت غيرت هدومي وطلعت اكل من التلاجة وأكلت، وبعد ما خلصت، شغلت التلفزيون وقعدت اتفرج عليه، مرت دقايق بعدهم مسكت موبايلي واتصلت باحمد، بعد كام رنة رد عليا، سألني عن يومي في الشغل الجديد وعن احوالي، وكذلك انا.. انا طمنته عليا وسألته عن يومه، وكان رده عليا إنه النهاردة هيبات في محافظة من محافظات بحري لأنه معاه شغل هيسلمه بكرة.. ولما سألته عن تفاصيل شغله وعن اللي ناوي يعمله.. حكالي.. حكالي وفضلنا نرغي شوية حلوين لحد ما قفلنا، وبعد ما قفلنا بحوالي نص ساعة كده، حسيت إن راسي تقيلة اوي، غمضت عيني ومددت جسمي على السرير وفي لحظة ماحستش بالدنيا ونمت.... ماعرفش فات على نومي قد ايه، هو كل اللي انا فاكره، إن انا ابتديت افوق على خنقة، زي ما يكون الهوا من حواليا بيروح، او انا اللي باخد نَفسي بالعافية!
فتحت عيني بالراحة وانا ببذل مجهود عشان اتنفس، وهنا بقى كان في مشكلتين.. المشكلة الأولى إن الهوا من حواليا كانت ريحته وحشة اوي، ريحة عفونة ممزوجة بريحة عطن!.. اما المشكلة التانية، كانت الضلمة.. انا لما فتحت عيني ماشوفتش حاجة، وكأني مافتحتهاش من أساسه!
قومت من مكاني بالراحة وانا فارد دراعاتي قدامي وبقول بصوت عالي...
-في ايه.. انا مش شايف ليه، هو انا.. هو انا اتعميت ولا النور قاطع في الشقة ولا.. ولا.. ايه ده!
سكتت فجأة لما حسيت إن المكان من حواليا مختلف، انا مش في أوضتي، الأرض اللي بدوس عليها دي مش أرض شقتي، دي عبارة عن تراب ناعم او رملة باردة!
اتمشيت كام خطوة كمان بحذر لحد ما رجلي خبطت في حاجة.. حاجة ماقدرتش احدد هي ايه، ماهتمتش اعرف وكملت مشي لحد ما إيدي لمست حيطة.. كانت حيطة باردة وملمسها خشن!.. خبطت عليها وانا بزعق..
-انا فين.. انا فين وايه اللي جابني هنا؟!
لما سألت السؤال ده، أجابته ماتأخرتش كتير، انا قدرت اعرف ايه هو المكان اللي انا فيه اول ما شوفت نور احمر كان من مكان ما.. ركن بعيد من أركان الأوضة اللي انا فيها، الركن ده ظهر فيه نور أحمر شبه النار، ومعاه سمعت أصوات همس وصرخات متتابعة، بس دي ماكانتش المصيبة، المصيبة الأكبر من الأصوات والنور، كان المكان اللي انا فيه، انا محبوس في قبر!.. محبوس في قبر وكمان لابس لبس غير لبسي، انا لابس لبس الشغل مش لبس البيت اللي كنت نايم بيه!
عقلي وقف، دقات قلبي زادت، وبحركة عفوية بصيت حواليا على الأرض، وساعتها شوفت أكفان لونها أصفر بالتأكيد جواها جثث، اما على إيدي اليمين، ف كان في سلم بيطلع لفوق، ومن جنب السلم ده كان في ركن داخل لجوة، والركن ده هو اللي جاي من على يمينه الضوء اللي شبه النار.. يعني تقدر تقول كده إن الضوء الاحمر ده كان خارج من الحيطة اللي تحت السلم!
وقفت في مكاني زي المشلول لمدة ثواني، اه مشلول.. اصل تخيل نفسك مكاني كده، تخيل إنك غمضت عينك ونمت، واول ما فتحتها وصحيت، لقيت نفسك جوة قبر وحواليك جثث، وكمان قصادك نار بتخرج من الحيطة واحدة واحدة لحد ما ظهرت اكتر.. ومع ظهورها، اكتشفت إنها مش مجرد نار وخلاص.. دي خرج منها مخلوقات قصيرة، تقريبًا في طول الطفل اللي عنده عشر سنين مثلًا، أشكالهم مفزعة.. عيونهم واسعة بشكل مش طبيعي، الشعر مغطي كل حتة في جسمهم، عندهم حوافر طويلة بتشقق الأرض اللي تحتهم وهم جايين ناحيتي!.. وكله كوم بقى وأصواتهم كوم تاني، أصواتهم كانت اكتر حاجة مزعجة ممكن تسمعها في حياتك، وعشان اقربهالك، خليني اقولك إنها بتشبه كتير لصوت التزييق بين الأزاز وبعضه، بالظبط كأنك جايب حتة أزاز وبتخليها تحتك بحتة أزاز تانية، اهو ده بالظبط نفس الصوت اللي كنت سامعه، نفس الصوت اللي في نفس الوقت فوقني من حالة الثبات اللي كنت فيها وخلاني طلعت جري على السلم.. السلم اللي اول ما وصلت لنهايته مالقتش فتحة ولا لقيت حتى باب، كان مجرد سقف طيني مقفول!.. فضلت اخبط عليه واصرخ بكل قوتي..
-افتحوا لي.. افتحوا لي بموت.. انا ادفنت وانا صاحي، افتحوا لي.
ولا اي حاجة، لا حياة لمن تُنادي، مافيش أي استجابة غير من حاجة واحدة بس، الأيادي.. المخلوقات الصغيرة دي طلعت ورايا على السلم وابتدوا يمسكوا في رجليا بإيديهم، لفيت وحاولت اقاومهم واضرب فيهم، لحد ما واحد منهم مسكني بقوة من رجليا الاتنين وسحبني، وقعت على ضهري وخدت السلم كله وقوع، وقبل ما افوق او حتى اتألم من الوقعة، لقيت قصادي ومن وسط الكائنات القصيرة دي، خرج كائن كبير.. فيه شبه منهم، لكنه مش في نفس طولهم، يمكن في طولي او اكتر.. قرب مني بكل هدوء وقال لي..
(البَيت.. عُد إلى البَيت)
برقتله وبصيت له وانا مستغرب، ماكنتش عارف اقوله ايه، لساني اتقعد والكلام وقف على شفايفي الناشفة من الخوف، بس قبل ما اتكلم وبعد ما قال كلامه ده، حسيت إن انا مخنوق، او إن انا بتخنق!.. أيدين طلعوا من الكفن اللي وقعت جنبه وابتدوا يخنقوا فيا بكل قوة، ضربتهم وانا بحاول ابعد عنهم، وفي نفس الوقت، الكائن او الجن او العفريت ده، فِضل يقرب مني بهدوء لحد ما مرة واحدة بقى وشه في وشي، وساعتها صرخ بكلمة غريبة، كلمة ماقدرتش اسمعها، او تقدر تقول إن انا سمعتها بس مافتكرتهاش بعد ما صحيت، إنما دلوقتي فاكرها.. العفريتة، بس ايه ده... كل اللي شوفته ده كان حلم!
صحيت من النوم وانا هتجنن، عارف ايه اللي كان هيجنني.. انا ازاي لما صحيت من النوم لقيت نفسي نايم على الأرض في الصالة!.. انا فاكر كويس اوي إن انا لما نمت كنت نايم على سريري والتلفزيون شغال قدامي!
قومت من على الأرض وانا ببص حواليا بذهول..
-هو في ايه.. انت اتجننت ياض يا محمود ولا ايه، ولا.. ولا انا بقيت بمشي وانا نايم؟
فضلت اكلم نفسي لحد ما رجعت أوضتي، ومع دخولي للأوضة، مسكت ريموت التلفزيون وشغلت قناة قرأن وفردت جسمي على
السرير... حسيت براحة وهدوء وابتديت اخد نفسي كويس، وفي نفس الوقت برضه، كنت حاسس بألم رهيب في جسمي وكأني طالع من علقة.. ده غير الصداع اللي من شدته غمضت عيني من تاني، والمرة دي مافتحتهاش غير على صوت جرس المنبه اللي جاي من تليفوني، واللي المفروض يعني إن انا ظابطه عشان يصحيني قبل معاد الشغل.
مسكت الموبايل وطفيت الصوت وابتديت افوق، قومت غسلت وشي وفطرت واتصلت على اخويا اطمنت عليه، وقبل ما البس، اتصلت بجاد صاحبي.. مرة واتنين وتلاتة، مابيردش!.. لا، كده مابدهاش بقى، انا هلبس وهروحله.. لبست فعلًا ونزلت على بيت جاد، خبطت كتير اوي لحد ما والدته فتحتلي، كانت لابسة كمامة وكان شكلها مرهق جدًا، بصيتلها بقلق وسألتها..
-صباح الخير يا أمي.. انا جاي اصحي جاد عشان الأتوبيس بتاع الشغل على وصول.
ردت عليا بقلق وحزن..
-جاد يا ابني من بعد ما رجع امبارح وهو تعبان، ولما التعب زاد عليه نزلناه للدكتور اللي في المستوصف وقال إنه اشتباه في الفيرس اللي ماشي اليومين دول.. هو دلوقتي نايم ومش هيقدر يصحى، واكيد يعني لو صحي مش هيروح الشغل عشان مايعديش حد.
اتضايقت لما قالتلي كده، بس في نفس الوقت حاولت اطمنها..
-ماتقلقيش يا أمي، ان شاء الله شوية برد وهيروحوا لحالهم، هو عمل تحاليل طيب؟!
-اه يا ابني عمل.. والدكتور طلب منه مسحة هنروح نعملها لما يصحى ومعاها كام تحليل كمان.
-طيب يا أمي، خير بأذن الله، انا هنزل دلوقتي عشان الحق الأتوبيس، واول ما ارجع على طول هاجي واطمن عليه.
هزتلي راسها وقالتلي..
-توصل بالسلامة يا حبيبي، وانا لما جاد يصحى ولو قدر يتكلم، هخليه يكلمك في التليفون.
ابتسمتلها ابتسامة بهتانة ونزلت للشارع، اتمشيت لحد مكان الأتوبيس اللي جه في معاده وركبته وروحت الشغل، ومع وصولي للمركز.. قلعت الهدوم اللي انا جاي بيها ولبست لبس الشغل، العفريتة الزرقا.. ودي تبقى الزي الرسمي للعمال في المكان، بس النهاردة غير امبارح.. انا لما لبست العفريتة، وبعد الحلم اللي انا شوفته وانا لابسها فيه، وكمان لأن الجن او الشيطان ده صرخ في وشي بأسمها قبل ما اصحى، فانا بصراحة كنت مخنوق منها اوي.. كنت حاسس إن انا لابس كفن مش لبس الشغل... وعشان اليوم يعدي، حاولت اتدارك خنقتي دي وابتديت افك واتعامل، وطبعًا استأذنت من المشرف وقولتله على حالة جاد، ف الراجل مشكورًا فهم وقال إنه لو طلع الفيرس اياه، حقه ياخد أجازته كاملة، وبعد ما يخف، يبقى ينزل عشان مايعديش حد.. ومن بعد كلامي مع المشرف ابتديت اشوف شغلي لحد ما جه معاد الغدا، امبارح كان يوم مرهق ومليان شغل لدرجة إننا والله أكلنا سندوتشات كده واحنا واقفين شغالين، بس النهاردة اليوم كان هادي، فاشترينا أكل من برة وقعدنا عشان ناكل، لكن.. لكن انا طول ما انا قاعد كنت مش مرتاح!.. كنت حاسس إن في حاجة عند ضهري من تحت، حاجة جوة الهدوم او العفريتة اللي انا لابسها!
استأذنت من العمال اللي كانوا قاعدين بياكلوا معايا وقومت.. دخلت الحمام وقفلت الباب ورايا، وبسرعة قلعت العفريتة عشان اشوف بقى ايه الحاجة اللي في ضهري دي، وساعتها اتفاجأت.. العفريتة فيها جيب داخلي.. او هو مش جيب بالمعنى الحرفي، هي فتحة صغيرة، من خلالها مديت إيدي بين البطانة الداخلية والقماشة الخارجية، وساعتها كانت المفاجأة الأكبر.. العفريتة كان جواها كيس بلاستيك صغير جواه حاجة مش عارف هي ايه!..
قصة العفريتة الجزء التاني