قصة دخان نعمان للكاتب محمد شعبان
بعد ما رجعت من سفرية الشغل اللي كنت مسافرها لاسكندرية، روحت على السيدة زينب؛ تحديدًا يعني روحت على أوضة عم نعمان اللي كنت متعود اسهر فيها انا وبقية الشباب كل ليلة خميس، وعم نعمان ده بقى حكايتة حكاية؛ راجل عجوز وعايش لوحده اه.. لكنه راجل طيب اوي وبيحبنا زي عياله اللي ماخلفهمش، راجل غلبان وعلى باب الله، ولاد الحرام خطفوه وهو صغير من بلده، وجابوه على القاهرة، فضل يشحت مع اللي خطفوه دول لحد ما كبر وعرف يهرب منهم، وفي الأخر انتهى بيه الحال بإنه عايش على أوضة في سطح عمارة من عمارات حي السيدة زينب، المهم.. انا أول ما وصلت على القاهرة وقبل ما اطلع الأوضة، اشتريت أكل ولوازم القعدة وبعد كده طلعت، باب الأوضة كان مقفول، ف فتحته بمفتاح كان مديهولي عم نعمان عشان لو نايم ولا حاجة ابقى اصحيه..
دخلت من الباب وفتحت النور وقعدت في الصالة، حطيت الأكل وطلعت علبة سجايري وبدأت الف سيجارة، بس وانا بلفها، خرج عم نعمان من الحمام وبص لي وضحك، كملت لف وولعت السيجارة وقولتله بابتسامة خفيفة..
-عامل ايه يا راجل يا عجوز؟!
رد عليا وهو بيضحك ضحكته المعتادة..
-عجوز مين ياض.. انا عمري ٦٠ سنة اه، إنما لسه شباب.. اطمن.. انا زي البومب، المهم انت رجعت من اسكندرية امتى وعملت ايه هناك؟!
-ولا حاجة.. خلصت الشغل اللي ورايا واديني رجعت اهو، بس انا اول ما نزلت من القَطر، روحت اشتريت أكل ليا وللعيال وليك، وكمان جيبت معايا وانا جاي حتة من اسكندرية إنما أيه، لوز اللوز.. الحتة اللي لفيت منها السيجارة دي، تدوق؟!
-لا لا.. انا لسه صاحي من النوم، بس هم العيال فين صحيح؟!
-لسه ماكلمتهمش.. استنى اتصل بالواد مانجة واقوله اني جيت.. دي هتبقى ليلة فل.
طلعت تليفوني وحاولت اتصل باحمد مانجة اللي متعود دايمًا انه يجي يقعد معايا في الأوضة هو وبقية الشلة، حاولت اتصل بيه كتير لكن تليفونه كان مقفول، وقتها بصيت لعم نعمان وقولتله..
-تليفونه مقفول.. شوية كده وهتصل بيه تاني.
رد عليا عم نعمان وهو بيقرب مني..
-سيبك من مانجة دلوقتي وركز معايا عشان عايز احكيلك على حاجة مهمة.
خدت نفس طويل من السيجارة اللي في إيدي وقولت لعم نعمان وانا بخرج الدخان اللي سحبته..
-مركز معاك اهو.. احكي يا راجل يا عجوز.
-كان في راجل اسمه نعمان.. لا بيخاف من أنس ولا من جان، اتصاحب على شوية عيال.. كانت قعدتهم كل خميس.. مليانة حشيش.. واللي بيمشي ورا العيال... مابيخلاش...
-ايه يابا.. ايه.. انت بتقول ايه يا عم انت؟!
-واللي بيمشي ورا العيال... مابيخلاش مخه من التهييس يا ابو تفكير شمال، لكن الحكاية مش كده.. الأصل كان أسمه رضا..
لما وصل لحد هنا قاطعته..
-بس يا عم نعمان الله يرضى عليك.. ما انت يا تحكي زي الناس وتبطل شغل الفوازير ده، يأما تسكت خالص بقى وتاخدلك نفسين.
رَجع نعمان راسه لورا وقال لي..
-رضا كان شاب صعيدي بيحب مراته وبنته اوي، اتعود كل يوم انه يروح شغله من بعد الفجر، لحد بعد العشا، وفي يوم تعب ورجع من شغله بدري، تقريبًا كان بعد المغرب كده، رجع على بيته اللي كان في مكان متطرف في البلد اللي هو منها، قرب من البيت اللي كان نوره منور، وقبل ما يطلع المفتاح ويفتح الباب، سمع صوت مراته وهي بتكلم راجل غريب وبتقول له..
(يلا بقى يا سعدون قبل ما المنيل يجي والبت تصحى... يلا خلص أوام قبل ما تجيب لنا مصيبة..)
وبعد كده سمع أصواتهم وهم في أحضان بعض، سعدون ده كان ابن عمه اللي خانه بالرغم من إنه متجوز ومخلف ولد، وقتها رضا مافتحش الباب، ده خد بعضه وراح بص من فتحة في شباك أوضة النوم، لقاهم مع بعض على سريره، ماحسش بنفسه ولا حس بأي حاجة، لا لا.. هو حس إنه في دوامة مافاقش منها إلا وهو راكب القَطر ونازل على القاهرة.. رضا يا ابني قبل ما يركب القَطر ويسيب بلده، راح جاب جركن الجاز اللي كان بيستعمله من ورا البيت، ورما كل اللي جواه على كل شباك وباب من شبابيك وبيبان البيت.
ولع في مراته وابن عمه وبنته الصغيرة، اللي احتمال كبير ماتكونش بنته اساسًا لأن مراته ست خاينة، وبعد ما اتأكد انهم ولعوا جوة البيت، خد بعضه وهرب من البلد وجه على القاهرة، بعد كده بقى راح كشف عند الدكاترة وعرف انه مابيخلفش، وساعتها كل ذرة ندم جواه على اللي عمله راحت، وقرر انه يعيش اللي باقي من عمره بأسم تاني غير اسمه، سمى نفسه نعمان وخد أوضة فوق سطح عمارة من عمارات منطقة السيدة زينب، كمل بقية حياته في رحاب الست، وفضل يدعي كل يوم ان ربنا يسامحه ويغفر له، لحد ما اتعرف عليكوا و...
قاطعته..
-يا نهار اسود يا عم نعمان.. انت بتقول ايه؟!.. يعني انت طول السنين دي كلها بتضحك علينا ومفهمنا حكاية غير حكايتك الأصلية، اومال ايه بقى ناس خطفوني وهربت منهم والأفلام دي كلها!
رد عليا نعمان..
-ما انا كنت خايف احكي، لا تبلغوا عني.. ده سر انا شايله جوايا بقالي سنين، ودلوقتي جه الوقت المناسب اللي احكيهولك فيه.
قربت منه وقولتله وانا بواسيه..
-ماتخافش يا عم.. ماتخافش.. ماحدش مننا هيبلغ، احنا زي ولادك برضه ومستحيل نعمل كده، استنى بقى اتصل بمانجة تاني عشان يلحق يجي يقعد معانا شوية، واهو نفرفش بدل ما القعدة قلبت غم كده.
مسكت تليفوني واتصلت باحمد تاني، لكن المرة دي تليفونه كان مفتوح ورد عليا..
-اهلًا.. ايه يا عم فينك، هتيجي من اسكندرية امتى؟!
رديت عليه وانا بضحك..
-ليلتك فل يا عم.. انا رجعت وقاعد مع عمك نعمان اهو..
رد عليا احمد وقال لي بصوت مش واضح..
-بتقول ايه يا ابني.. الشبكة عندك وحشة..
قومت وقفت وخرجت برة الأوضة، وقفت على السطح وكملت كلام مع احمد..
-انا واقف برة خالص اهو.. سامعني كويس كده؟!
-اه.. سامعك كويس كده، بتقول ايه بقى؟!
-بقول لك ان انا رجعت من اسكندرية وجيبت لكوا معايا حتة لوز.. وكمان جيبت أكل يكفينا.. واديني اهو عند عمك نعمان في الأوضة، قاعد بيتكلم معايا بقاله ساعة لما كَل نفوخي.. عمال يقول لي انه اسمه رضا وانه...
قاطعني احمد..
-انت بتقول ايه يا حاج.. قاعد مع مين؟!.. انت اتسطلت ياض ولا ايه، عمك نعمان مات امبارح ودفنناه، انا مارضتش اتصل بيك ولا اقولك لأني عارف انك اكيد مشغول وكمان...
نزلت التليفون من على ودني وبصيت جوة الأوضة، وقتها مالقتش عم نعمان اللي كان قاعد قصادي من شوية!
مسكت التليفون تاني وقولت لاحمد..
-بقولك ايه يا عم مانجة، نعمان مين اللي مات، ده كان لسه قاعد جنبي من شوية.. ايه.. روحه رجعت تاني وطالبة فضفضة؟!
رد عليا احمد وهو بيضحك..
-الله يخربعقلك.. طب وربنا يا ابني عمك نعمان مات ودفنناه، دخلنا عليه الأوضة لقيناه ميت، ف شيلناه وغسلناه و..
فجأة صوت احمد سكت، بصيت في التليفون لقيته فصل، حاولت افتحه، مابيفتحش، وقفت اكلم نفسي على السطح واضرب كف بكف وانا ببص جوة الأوضة..
(يا نهار اسوح.. لما نعمان مات.. اومال مين اللي كان قاعد بيحكيلي حكايته من شوية ده.. الله يخربيت دي حتة حشيش، بس حشيش ايه.. هو انا أول مرة اشرب!.. ده عفريت نعمان اللي طلعلي بجد ده ولا ايه؟!)
وانا بتكلم بصوت عالي وبقول لنفسي كده، سمعت صوت في ودني اليمين بيقول..
(ما انا قولتلك مش نعمان.. اسمي رضا..)
لفيت ناحية مصدر الصوت، لقيته، نعمان.. بس شكله كان متغير، عينيه كانت خارجة لبرة ووشه كان شاحب وكأن جسمه مافيهوش نقطة دم واحدة، ده غير إنه ماكنش لابس هدوم، ده كان لابس كفن أبيض.. لونه قالب على رمادي لأنه مليان تراب!
اول ما شوفت منظره ده، رجعت لورا بخطوات ثابتة وبطيئة وانا بقول له..
-انت موتت بجد وده عفريتك ولا انا بيتهيألي يا عم نعمان ولا ايه؟!
اول ما قولتله كده قرب مني بسرعة وهو بيقول بصوت عالي..
(قولتلك رضا...)
وزقني بكل قوة ناحية سور السطح عشان اقع من فوق، حاولت امسك في السور لكني فلتت وغصب عني ووقعت....
(اه لو لعبت يا زهر.. واتبدلت الاحوال.. وركبت أول موجة.. في سكة الأموال..)
ده كان صوت موبايلي اللي صحاني من عز نومي، مسكت التليفون وبصيت فيه، لقيت ان اللي بيتصل هو احمد مانجة، بس قبل ما ارد عليه بصيت حواليا، وقتها عرفت اني ماسافرتش من اسكندرية اساسًا، انا لسه بايت في اللوكاندة والمفروض إن انا هسافر بكرة، الحمد لله إن كل اللي شوفته ده كان حلم.. الحمد لله...
بعد ما اطمنت ان انا كويس واتأكدت من إن انا كنت بحلم، رديت على احمد مانجة..
-ايوة يا احمد...
-ايوة يا ابني.. انت مابتردش ليه.. عمال اتصل بيك.
-معلش.. كنت نايم، في ايه يا ابني قلقتني؟!
-انت لازم ترجع من اسكندرية حالًا.. عمك نعمان اللي بنقعد عنده في أوضة السيدة، كان مختفي بقاله يومين وماحدش يعرف عنه حاجة، ولما طلعنا أوضته وفتحناها بالمفتاح اللي كان مديهولي، لقيناه ميت.. الراجل مات وهو نايم.. احنا هنطلعله تصريح الدفن وهنغسله وهندفنه، انت لازم تيجي عشان تحضر العزا..
بس في حاجة مهمة عايز اقولك عليها.. احنا لقينا تحت مخدته ورقة مكتوبة بخط إيده.. عمك نعمان ماطلعش اسمه نعمان يا عم.. ده طلع اسمه رضا واصله من الصعيد، قتل مراته وعشيقها والبت اللي كان فاكرها بنته وجه هرب على القاهرة.. مش زي ما كان مفهمنا انه كان مخطوف وكده.. بقولك ايه.. قوم يلا اركب القَطر وتعالى بسرعة.. احنا هنعمل العزا بكرة...!
وانا بسمع كلام احمد، لقيته في المراية اللي قصادي بنفس شكله اللي شوفته في اخر الحلم...
(نعمان...!)
اول ما قولت أسمه، سمعت صوته جوة راسي..
(قولتلك اسمي رضا يا عصام يا ابن سعدون ياللي سيبت بلدك بعد ما ابوك مات محروق ونزلت على القاهرة انت وامك.. قوم يا عصام.. قوم ادفن الراجل اللي ماكنتش تعرف انه عمك.. قوم ادفن اللي قتل ابوك)
بعد ما قال لي كده اختفى؛ اتحول لدخان.. شبه نفس الدخان اللي كان بيحاول طول العُمر انه ينسى بيه قتله لابويا.. ايوة نُعمان او رضا بقى.. كان عمي وانا ماكنتش اعرف لأني كنت صغير اوي وقت قتله لابويا....